هايد بارك

سعد الحريري... رجل مبدأ - خالد صالح

تم النشر في 15 كانون الثاني 2021 | 00:00

كتب خالد صالح: 

عندما تمّ تنصيب جون كينيدي رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية في العام 1961، ألقى خطابًا أعتبر مقدمة لرسم ملامح جديدة لفترة شابة لأميركا، وقدّم قاعدة سياسية رائدة في تعبيره عن الإنتماء والوطنية عندما قال : "لا تسأل ماذا يُمكن أن يُقدّم لك بلدك .. بل إسأل ماذا يُمكن أن تُقدّم لبلدك"..


يعتقد كثير من النّخب السياسية والفكرية أن الرئيس سعد الحريري يُشكّل ظاهرة متمايزة في العمل السياسي، وأن دوره الوطني ثابتٌ وراسخٌ مهما شهدت أحوال البلاد من تباينات، لأن الفكر الوطني لديه يتقدّم على ماعداه، فتاريخ الرجالات الوطنية ليس سردًا لأحداثٍ وتفاصيلَ فحسب، بل في الرؤيا التي يحملونها لأوطانهم للحاق بالركب العالمي في كل المجالات ..


سعد الحريري من الرجالات الأوفياء المخلصين إذا ما قورنت مواقفه بالكثير من المواقف التي تصدر من هنا ومن هناك، لأنه يستحوذُ على فروقاتٍ كبيرة بالفكر والفهم والانتماء الوطني، بعيدًا عن التلهّي بمصالح آنية ضيقة، أو بحثًا عن نفوذ وسلطة، وقد يعمدُ إلى تدوير زاوية قاسية هنا أو كسر زاوية حادة هناك أو الانحناء أمام عاصفة أحيانًا أو الصمود في وجهها أحيانًا أخرى، لكنه في كل الأوقات الرجل الذي يحمل وطنه في قلبه ولا مساومة على وجوده ..


سعد الحريري ليس بطلًا خارقًا، بل مؤمنًا صادقًا بديمومة وطنه، تاريخُه يُشكل هالة قلّما يفهمها القادمون للسياسة من بوابات أخرى، فهو من القادة الذين يبحثون دومًا عن الوفاق والاتفاق وينبذ التفرقة والنفاق، ومن الثابتين الذين تُدرّس مواقفهم وانتمائهم لتصبح في ذاكرة كلّ فردٍ من ابناء الوطن، ومن الذين يعملون على إرساء قواعد البناء الحضاري ويبثون القيم والمبادىء الأخلاقية، كي يكونَ للوطن معنىً وهوية وليس مجرّد هياكل فارغة ونظريات لا تغني ولا تسمن ..


ليست سمات سعد الحريري وليدة صدفة بل هي "منحة ربّانية" ورثها عن أبيه وحسبه هذا شرفا، فخدمة بلده ومجتمعه تتجاوزُ حدودَ المناصبِ مهما بلغت درجة الإغراءات، وليس من الذين يديرون ظهرهم للأزمات ويتخلّون عن مسؤولياتهم، فالأمانة الخالدة التي يحملُها بين جنباته تدفعُه للعمل بمناقبية وتفانٍ إلى تمتين الفسيفساء الوطنية التي يتشكل منها لبنان بعرىً وثيقة لا تنفصم عن تركيبته المتنوّعة التي جعلت منه " وطن الرسالة " ..


إن الرسالة الخالدة التي ينتهجُها سعد الحريري أظهرت حقيقة الأمور بين من يعمل من أجل لبنان ومن يعمل لغاياتٍ ضيقة ومحاصصةٍ محدودة، لا نافذة للتكاسل والخذلان في حياته، بل سؤال جوهري يدورُ في فلكه، ماذا يمكن أن تُقدّم لبلدك ؟، وما هي السبل الآيلة لرفع الشعب إلى مستوى الوطن؟، فلا لقاء ولا حوار ولا حديث إلا والحاضر الأول لبنان، ليس كأسير أو جريح أو وطن معذّب، أو عظيم الخيبة بأهل أو حلفاء، إنما بوطنٍ له غد وكرامة وسيادة وحق بالحياة .. وحريٌ بالحلم ..


ورغم التضحيات التي يبذلُها سعد رفيق الحريري في سبيل إنقاذ هذا الوطن، لم نجد حتى الآن أي أصواتٍ تتداعى للوقوف بجانبه، لأنها تقرأ في كتاب رؤيتها الضيقة، بينما يقرأ في كتابه الوطني كقيادة ومرجعية، حتى باتت مثالًا يُحتذى لكل من يريد أن يتعلّم كيف يكون الولاء والانتماء، لم نجد من يضع كتفَه على كتفِ سعد الحريري في "مهمته المستحيلة"، بل يرفضون حتى النقاش في المسار الذي أراده سبيلا للخلاص، لأنهم يريدونها في قوالبَ جديدة من صناعتهم، ويستمدونها فقط من نفوذهم ومن القوقعة الضيّقة التي يضعون أنفسهم في داخلها رافضين الخروج إلى الوطن ..


بنى سعد الحريري لنفسه "يوتوبيا" يرفضُ الخروج منها أو المساومة عليها، متمسكًا بأفكار تتجاوز نطاق المصالح الشخصية، وكأنه على مسار "غاندي" حين قال : " إن التسوية أخذ وعطاء وإلا كانت استسلامًا مقنّعًا بمساحيق مضحكة"، وضع "لبنان أولًا" منهاجه الوحيد وصبّ تركيزه كاملًا في سبيل هذه المعادلة، بينما البقية قالوا "الرئاسة أولًا" و " الوزارة أولًا" و"الأجندة أولًا"، فتقدّمهم جميعهم ولم يتقدموا عليه ..

اليوم يرسم سعد الحريري لنفسه "صراطًا مستقيما" يلتزمُ به، من أتى إليه أتى غير مرغم ومن أبى فقد شاء ذلك، فهو يعرفُ أن النفوسَ البشرية هُلامية الشكل والنزعة، لذا لم يأخذه منطق الربح ولم يهدّه إحساس الخسارة، هو سعد الحريري وقناعاته، لا عناده، المنطق الذي لا تأخذه مفاتن الشعبوية، فنقطة الارتكاز عنده احترام الذات، ليس " مهرّجًا " ليربح موقعًا أو منصبًا ويخسر الوطن ..

سعد الحريري، الوجه المشرق المتبقّي في سياستنا المحلية، مثالٌ لا يُطاق، نظافة لا تُطاق، نزاهة لا تُطاق، مناعة لا تطاق، النقيضُ الذي يُذكّر الآخرين بكل ما يحاولون اخفاءه، سعد الحريري رجلٌ بلا "سجل عدلي" في بلد خرج من حروب كثيرة ورفض الدخول في " مناقصة " على حساب مسلّماته، ليكونَ الرجل الذي يطمئن له المسيحي قبل المسلم، لأنه يعلم أن الطريق معه آمنة وتودي إلى الهدف لأنه "رجل مبدأ"..


حسب سعد الحريري قوله تعالى : (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)، ليكون القدوة والمثال، عسى لشاباتنا وشبابنا أن يتعلّموا من الدروس المستقاة ..