هايد بارك

سيدات "خان الشابندر" وفتاة شارع المتنبي - ايناس تميم

تم النشر في 19 كانون الثاني 2021 | 00:00



خرجت ضوية من المنزل الكبير ومن غرفتها حيث صور الفنانات العاريات والصور التي تثير الغرائز الى النهر لكي تتطهر، لكي تقرأ ما علمها إياه "العم مجر".

من هي ضوية؟ ضوية هي الفتاة المُغتصبة من والدها، التي تروي قصتها وكأنها قصة فتاة أخرى لا تمسها بشيء، لكن في كل نهاية لكل حديث تُدمع، لا أعلم ان كانت تُبكي نفسها، او تُبكي تلك الفتاة التي تتحدث عنها.

ومن هو الأستاذ "علي" الذي أخبرته ضوية القصة؟ الأستاذ المُحترم، الذي دخل منزل الدعارة والعاهرات، دخله محترِماً سيداته، لم يبغِ الجنس، لكنه يبغي التكلم، التحدث. هو ذلك الصحافي التي تدور حوله رواية "خان الشابندر" للكاتب "محمد حيّاوي" كما وصفه في الرواية "أستاذ علي رجل مثقّف وراغب بالتعرُّف إلينا ويتبادل الحديث معنا..ليست قضية جنس...هو ليس من هذا النوع.. " ص. 25.

بدايةً أعتذر عن استخدام بعض المصطلحات القوية نوعاً ما بالفقرة أعلاه لكن مقدمة الشرح مهمة بأهمية الرواية.

لماذا هذه الرواية على قدر من الأهمية؟ هذه الرواية مختلفة جداً ومتناقضة عما تقدمت به بالأول، بالعكس تماماً فتتكلم عن عدد من الانثوات هن ضوية، هند، لوصة، زينب، نيفين، أم غاوية، أم صبيح، والحاجة أم نعيم، اللواتي يملِّثن بغداد والعراق بكل مقاطعاتها.

نبدأ من الحاجة أم نعيم؟ هي التي تقضي وقتها في الزواريب القديمة، الحاجة اللحوحة تُنزل فتيل المدفأة الى الآخِر فتنتزع، وتعاود ارسالها مجدداً الى "أبي حسنين وليس حسنين". لكن في هذه المرة انتظرت كثيراً ليمر هذا "الولد" لكنه لم يمر، بل كان من الصدف مرور الأستاذ "علي" مع "زينب" التي سوف نتعرف عليها لاحقاً. وبدوره أخذ الاستاذ المدفأة الى "أبو حسنين المصري وليس حسنين"، هو ذلك المصري الذي آبى أن يغادر العراق الى بلده مصر، الذي حضر استشهاد ابنه "حسنين" في قادسية صدام، ورحيل زوجته، آبى أن يغادرها أو أن يغادر مدفأة أم نعيم التي سوف تعود دائما اليه لكي يصلحها من جراء هذا الفتيل.

فتيلٌ رفيع جداً يربط ما بين أم نعيم وأبو حسنين، هو نفسه هذا الفتيل الذي يربط بغداد بأهلها، فبلحظةٍ واحدة من الممكن أن يشتعل ويحرقها، أو أن يتوقف عن العمل ويُدخل الصقيع الى المنازل والقلوب وفي تلك الحالتين بغداد وأهليها في حالة فقدان، فقدان الدفء الحقيقي.

الحاجة أم نعيم هي تجسيد الحالة العراقية، فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة والتي لم تنتهي الى اليوم، أو لم ينتهي أثرها الى اليوم، لقد اختفى دفء المنازل العراقية وأصبحت بيوتاً فارغةً من اي أمانٍ، ولا بملايين آلات التدفئة التي لن تفيد، الا الطمأنينة هي التي تدخل الدفء رغم الثلوج والجليد إن وجدت.

نعود الى ضوية، ضوية هي الحالة العراقية المتألمة من جميع الجهات، التي مجرد النظر إليها تحس بحاجة الى ضمها، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تحافظ عليها في الوقت عينه، لكن بالأخير يكون الطمع فيها هو سيد الموقف، يجرحهها الطامعون بها، ولا تخرج من هذه الضمة سالمةً أبداً، هذه هي ضوية وبغداد معاً، هي العاصمة العراقية، بغدادنا التي اعتصرت الان ولم يبق منها غير الجراح والتآكل والمضدد.

حاولت ضوية الرحيل الى طقوس آخرى علها تجد السلام، لكن أين هو السلام وما معنى السلام، وكيف نستطيع الوصول اليه؟ السلام وفي العراق!؟ أتى الكاتب علىى ذكره متناسياً بأن لا شيء يروي عطش "العراقيين" بعد تلك الجمعات المسلحة والجمعات التي ادعت الاسلام والدولة الاسلامية التي أخرجت ذلك الاسلام والسلام من العراق.

أوجد الكاتب معلمة الجغرافيا، فمن هي؟ "هند" اسمها وهي سيدة من سيدات ذلك المنزل، هي التي لم يعد لديها أي ملامح ولم تعد هي كما كانت، الانسانة الهادئة المضيافة القابلة للحياة، فلقد تغييرت ملامحها كما تغييرت ملامح العراق وتقسمت، والاحساس مع "هند" كان مختلفاً، لقد أتى معها الحنين الى العراق القديمة الى العراق النظيفة والشارع المتحضر، الى العراق الحضارة الدائمة.

إن كل سيدة ترمز الى وجع كل عراقي مختلف، والفتاة "زينب" أيضاً رمز، فكيف كان؟ زينب التي تبيع الكعك لأجل أخوانها بعدما تيتموا، أيتام الأب والأم معاً، وهكذا هي العراق يتيمة الأم والاب معاً، "زينب" الفتاة الصغيرة التي تجول مع الصحافي "علي" يستكشف شارع المتنبي معها الذي يدخله للمرة الأولى، تحدث اليه عبر الخطوات والطرقات عن بغداد، أخطره الشارع حكايات انتقلت الينا عبر الأسطر والحروف، تحولت الى قصصٍ تستطيع ان نُحيّكها او نرسم منها لوحاتـٍ ورواياتٍ تتضمن عدد كبير من الصفحات والمعلومات والشخصيات.

رواية  "خان الشابندر" من 172 صفحة، عن دار الاداب بيروت-لبنان، عام 2015، تستطيع قرائتها بسهولة تامة، فيها من روعة اللغة نشوتها، ومتعة المتاهة والغموض التي تعتريها مشاهد القسوة والحزن العراقي التي تلتمسه بين الاحرف والحركات، حتى علامات التوقف لها رمزيتها في هذا الكتاب، يُكثر في اسلوب التساؤلي والحواري، مما يعطيها نكهة الواقعية والحقيقة والتقرب أكثر من شخصياتها وتأسرك.

رواية جميلة جداً، بسيطة من حيث التسلسل ومعقدة من حيث المضمون في آنٍ معاً، لا توازٍ في الاحرف والكلمات فقط بل البحث للعمق الداخلي عبر تشويقاً يقصده الكاتب.

أترككم في زواريب هذا الخان، "خان الشابندر" للروائي العراقي " محمد حيّاوي.

ومن التشويق قصة لم نسردها هنا بل نجعل لكم لحظات لاستكشافها في الكتاب، "لقد خبرنا الموت يا أستاذ. أنا شخصياً استشهدت في القادسيّة. ثم تبين أنني فقدتُ في الشِيب. وبعد ذلك، أُسرت في إيران. وبعد سنين وجدت نفسي في مَصحّة عقليّة.. هذه السيارة الثانية التي اقتنيها بعد أن احترقت الأولى في انفجار الصدريّة. خرجت منها محترقاً، وتَعجَّب الناس كيف نجوت من الحادث! أنا ميِّت يا أستاذ من زمان.. فهل يخاف الميِّت من الموت؟"