29 حزيران 2019 | 00:00

كتب خيرالله خيرالله

أصيلة ترفع التحدي مجدداً

أصيلة ترفع التحدي مجدداً

رفعت اصيلة المدينة المغربية الصغيرة الحالمة المقيمة على المحيط الأطلسي التحدي مجددا. رفعته عبر موسمها الثقافي الرقم 41. في الواقع، كان كلّ موسم من المواسم الثقافية في اصيلة بمثابة رفع للتحدي نظرا الى الحاجة الى التجديد بدل الوقوع في الرتابة.

لكن التحدي كان هذه المرّة مختلفا بعدما لمح محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى اصيلة، في ختام الموسم الأربعين في السنة 2018 الى ان من الوارد ان يكون ذلك الموسم الأخير. عبّر بن عيسى قبل عام عن "تخوّف مشروع"، لكنه أوضح هذه السنة في كلمة افتتح بها الموسم الواحد والأربعين انّه "لم يتوقّع حجم التعاطف واشكال الدعم التلقائي والطوعي للاستمرار" مشيرا على وجه التحديد الى انّه كان في طليعة من شجع على استمرار الموسم الملك محمّد السادس الذي "آزرنا وشملنا برعايته السامية، كما ذلّل صعوبات واجهتنا وحفّزنا في سائر المحطّات بطاقة متجدّدة".

ليس سرّا ان ما كان مدينة صغيرة جدا، بل قرية للصيّادين، كبر كثيرا في موازاة الموسم الثقافي. امّن الموسم لاصيلة موقعا متميّزا على خريطة المغرب والخريطتين العربية والافريقية. قال محمّد بن عيسى، وزير الخارجية المغربي السابق ورئيس بلدية آصيلة واصفا وضعها الراهن: "تتوفّر للمدينة الآن هياكل ثقافية أساسية ومنصات مجهّزة للانتاج والاستهلاك الثقافي، وكلّها تحتضن منذ تشغيلها أنشطة وتظاهرات على مدى السنة". باختصار، صارت اصيلة مدينة الفن والثقافة في كلّ فصل من فصول السنة.

مرّة أخرى كان الذين حضروا موسم اصيلة هذه السنة، على موعد مع مواضيع جريئة يصعب التطرّق اليها في معظم البلدان العربية باستثناء المغرب. كانت هناك ندوات عدّة عن عبء الديموقراطية الثقيل: اين الخلاص؟" مع سؤال بديهي عن دور وسائل التواصل الاجتماعي والشبكات الاجتماعية وتأثيرها على الديموقراطية. كانت مُنية بوستّة كاتبة الدولة لدى وزير الخارجية والتعاون الدولي المغربي جريئة في شرح العلاقة بين الديموقراطية والشبكات الاجتماعية شارحة الأسباب التي تدعو الى الاعتقاد ان هناك تأثيرا لهذه الشبكات على الديموقراطية. كان موسم اصيلة مجدّدا منبرا لطرح أفكار طليعية ستكون موضع نقاشات واجتهادات وتفسيرات في المستقبل، بل ستشغل المهتمين بتطور الحياة السياسية في كلّ دولة عربية او افريقية. يؤكّد ذلك ان موسم اصيلة بادر في الماضي الى الذهاب الى أماكن لم يتجرّأ احد على الذهاب اليها في المنطقة. في طليعة هذه الاماكن العلاقة بين الدين والسياسة وازمات المنطقة والمجتمعات العربية والإسلامية عموما. طرح في احدى المرات سؤال "هل نكون او لا نكون" على العرب ككلّ.

في سنّ الـ41، لا يزال موسم اصيلة شابا. يصحّ مرّة أخرى التساؤل ما سرّ اصيله؟ ما الذي يجعل موسمها يحتفظ بشبابه واندفاعه ورغبته في تجاوز حدود المألوف؟ هل هو المغرب الذي يقال فيه في عهد محمّد السادس ما لا يمكن قوله في معظم بلدان العرب؟ الأكيد ان الأساس هو المغرب الذي لا مكان للممنوعات فيه والذي يوفّر فضاء للحرية ليس موجودا سوى في البلدان المتقدّمة التي تنتمي بالفعل الى العالم الحضاري؟

قبل عامين، في العام 2017 وفي افتتاح ندوة "الفكر العربي المعاصر والمسألة الدينية"، كان الأمين العام لمؤسسة منتدى اصيله حريصا على الذهاب في طرح المسألة كما يجب ان تطرح وذلك لحضّ المشاركين على الذهاب بعيدا في عرضهم لافكارهم. قال محمّد بن عيسى وقتذاك: "انّها لمفارقة تاريخية حقّا ان يستمرّ اعجابنا بمفكري النهضة، في مصر والشام والمغرب العربي، كون هؤلاء توقفوا في مواجهة مشاكل عصرهم بالادوات المعرفية المتاحة. صاغوها استجابة لمتطلبات مجتمعاتهم في فترات محدّدة، بل تصدّوا بجرأة فكرية نادرة للطابوهات (الأفكار المسبقة الثابتة التي لا تمس) والمواضيع المحرّمة دون شطط فكري اوشعبوية منفّرة".

كما في كلّ موسم من مواسم اصيلة، هناك احترام للآخر، ذلك ان على المحكّ مستقبل أجيال ومنطقة وصورة الإسلام. لذلك كان لا بد من التذكير بأنّ ما يمرّ به العرب في هذه الايام، استمرار للازمة العميقة المستعصية التي تعاني منها المنطقة كلّها. لعلّ احد افضل العناوين التي تصلح لكل وقت، ذلك المتعلّق بتطوير الثقافة العربية والافريقية والتفاعل القائم بينهما مع تركيز خاص على تهذيب الحس الفنّي والذوق لدى الشعوب العربية. ليس صدفة ان اصيلة هي قبل كلّ شيء مكان للفنّ. مكان للوحات على جدران بيض وحفلات موسيقية ومعارض لرسامين مغاربة وعرب وافارقة.

في السنة 2019، انعكست تراكمات واحد وأربعين عاما من تجربة طليعية على المدينة نفسها التي صار عدد سكانها نحو36 الف نسمة. ما يلفت نظر زائر اصيلة هذه الايّام هو التحسن الذي طرأ على كلّ المرافق المرتبطة بالبنية التحتية، خصوصا الواجهة البحرية للمدينة. بدأت هذه الواجهة تأخذ شكل كورنيش طويل طوله ثلاثة كيلومترات يتسع لآلاف الزوار ولكل أنواع النشاطات الترفيهية. بدأت تظهر على طول الواجهة البحرية فنادق فخمة بعد سنوات طويلة من الانتظار. كان استكمال بناء هذه الفنادق توقف فجأة في العام 2008  بسبب الازمة الاقتصادية العالمية. سيكون لاصيلة أيضا ميناء سياحي كبير في المستقبل القريب.

في نهاية المطاف، استطاعت اصيلة ان تساعد نفسها في إيجاد موقع خاص بها في بلد يشهد نهضة حقيقية على كلّ المستويات. استطاعت اصيلة ان تجد لنفسها مكانا على الخريطة المغربية والافريقية. كان موسمها الثقافي نقطة الانطلاق نحو مستقبل افضل بعد إقامة البنية التحتية الملائمة، بما في ذلك مجمع للمؤتمرات يحمل اسم الملك الحسن الثاني، رحمه الله، ومكتبة حديثة تحمل اسم الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز الذي تبرّع بسخاء من اجل بناء تلك المكتبة الحديثة.

الأكيد انّ تطوّر المدينة ارتبط بمحمّد بن عيسى الذي لا يزال محرّك موسم اصيلة. الرجل صاحب رؤية. لم يحد يوما عن ثوابت عدّة وضعها نصب عينيه. من بين هذه الثوابت البعد الافريقي لموسم اصيلة. هذا البعد الافريقي لا يزال حاضرا الى الآن وبقوة مع بعد آخر مرتبط باميركا الجنوبية. هذا البعد الافريقي ليس وليد البارحة، بل هو قديم قدم موسم اصيلة الذي كان الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنغور، الشاعر والاديب، احد ابرز ضيوفه.

ماذا عن الموسم الرقم 42؟ الثابت ان الاعداد له بدأ قبل ان ينتهي الموسم الحالي. الثابت أيضا ان من الصعب التخلي مستقبلا عن موسم اصيلة بعدما صار جزءا لا يتجزّأ من حركة البناء والاعمار والتطوّر التي يشهدها المغرب، وهي حركة ان دلت على شيء، فهي تدلّ على وجود نوع من الحيوية في هذا البلد الذي تحوّل مع الوقت الى جسر بين أوروبا وافريقيا والى حصن متين في وجه التطرّف بكلّ انواعه.


يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

29 حزيران 2019 00:00