خيرالله خيرالله

27 تموز 2019 | 00:00

كتب خيرالله خيرالله

عبقرية تاتشر ومزايدات بوريس جونسون

عبقرية تاتشر ومزايدات بوريس جونسون
المصدر: خاص - "مستقبل ويب"‏

 



رد رئيس اللجنة الاوروبية جان كلود جونكر علي تهديد رئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون بالخروج من دون اتفاق من الاتحاد الاوروبي بجملة بسيطة. قال جونكر ان الاتفاق الذي توصلت اليه رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي مع الاتحاد الاوروبي هو " الاتفاق الأفضل والوحيد الممكن". هذا يعني عمليا، في ضوء الموقف الاوروبي، انّه لم يعد امام بوريس جونسون سوى خيار واحد. يتمثّل هذا الخيار في تنفيذ تهديده بالانسحاب من الاتحاد في الواحد والثلاثين من تشرين الاوّل – أكتوبر المقبل... هذا في حال صمدت الحكومة البريطانية الجديدة ولم تتعرّض لهزّة داخلية بسبب الانقسامات التي يعاني منها حزب المحافظين الذي غيّر بوريس جونسون طبيعته وحولّه الى حزب بريكست.


ما حصل في المملكة المتحدة كان انقلابا بكلّ معنى الكلمة، خصوصا بعد اختيار بوريس جونسون الزعيم الجديد للحزب تشكيل حكومة تضم صقور بريكست، الذين لا يهمهم سوى الخروج من الاتحاد الاوروبي. ليست الحكومة الجديدة حكومة حزب المحافظين الذي يضمّ عددا كبيرا من الشخصيات المعارضة لبريكست. هؤلاء حالوا ثلاث مرات دون تمرير الاتفاق الذي توصلت اليه ماي مع الاتحاد الاوروبي. قرّر بوريس جونسون تجاوز كلّ الاعتبارات التي تتحكم بتشكيل الحكومة وعزل كلّ من لا يؤمن ببريكست، تمهيدا لخروج بريطانيا من الاتحاد باي ثمن كان.


ستدفع بريطانيا ثمنا كبيرا في حال خروجها من الاتحاد الاوروبي بسبب غياب قيادة سياسية تقود الشارع بدل ان تنقاد له، خصوصا بعدما تبيّن ان الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي قبل ثلاث سنوات كان خطأ كبيرا، بل خطيئة. تبيّن، بكلّ بساطة بعد الاستفتاء، ان الخروج مهمّة شبه مستحيلة... لا لشيء سوى لان بريطانيا خارج الاتحاد الاوروبي ستعود الى خلف. العودة الى خلف ليست عودة الى العصر الذهبي الذي بدأ في العام 1979 بوصول مارغريت تاتشر الى موقع رئيس الوزراء. العودة الى خلف تعني العودة الى ايّام هارولد ولسون في ستينات القرن الماضي عندما عجزت بريطانيا عن إيجاد صيغة تضمن لها التكيّف مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والعيش في ظلّ وهم اسمه القوّة العظمى.


تكمن عبقرية مارغريت تاتشر في قدرتها على التكيّف مع التطورات التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. فعلت ذلك عن طريق خلق واقع جديد في بريطانيا ودور لها في مجالات مختلفة. في مقدّم هذه المجالات، التحوّل الى الحليف الاوروبي الأقرب للولايات المتحدة من جهة وتحويل لندن الى مركز مالي عالمي من جهة أخرى. امتلكت تاتشر رؤية في حين لم يستطع ايّ من الذين خلفوها، بمن فيهم العمالي توني بلير، طرح أي جديد من ايّ نوع. كانت رؤية تاتشر قوية وذات تأثير الى درجة ان بلير لم يخض الانتخابات ويفوز فيها الّا بعد تخليه عن كلّ الأفكار التي سبق لحزب العمال ان طرحها. اعتمد في الواقع أفكار تاتشر واعلن انه يخوض الانتخابات على رأس حزب العمّال "الجديد" (new labour).


ليس معروفا الى الآن كيف وقع ديفيد كاميرون الذي كان رئيسا للوزراء في الفخّ الذي نصبه له أولئك المطالبون بخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي. لم يدر مخاطر الاستفتاء في ظل انتهازيين مثل  بوريس جونسون او نايجل فاراج يستطيعون بيع الاوهام وإقناع عدد كبير من البريطانيين بانّ مصدر كلّ مصائبهم هو أوروبا. ظهر جليّا مع مرور الوقت انّ كلّ الأرقام التي طرحوها، خصوصا تلك المرتبطة بنظام الضمان الصحّي الذي يستفيد منه الاوروبيون المقيمون في بريطانيا غير صحيحة.


اكثر من ذلك، تبيّن ان كلّ ما له علاقة بالهجرة الى بريطانيا ووصف هذه الهجرة من بلدان أوروبا الشرقية، التي انضمت حديثا الى الاتحاد الاووربي، لا يمت الى الحقيقة والواقع بصلة. على الأرض، لا وجود لعمال بناء بريطانيين ولا وجود لموظفين بريطانيين في الفنادق او المطاعم. هناك شبه غياب للبريطاني عن مطاعم لندن وفنادقها. فوق ذلك كلّه، ان بريطانيا تحوّلت الى مكان لتجميع السيارات اليابانية وغير اليابانية. لا توجد شركة سيارات كبيرة بريطانية. "رولزرويس" مملوكة من مجموعة "ب. ام. ف" الألمانية و"بنتلي" من مجموعة "فولكسفاغن" الألمانية أيضا. لا داعي من دون شكّ للحديث عمّن يملك الشركات الأخرى مثل "جاغوار" او "روفر". ما حصل ان بريطانيا دخلت عالما جديدا من خلال البوابة الاوروبية. كانت المستفيد الاوّل من الاتحاد الاوروبي واستطاعت الحدّ من النفوذ الفرنسي والألماني داخل الاتحاد عن طريق توسيعه ودفع دول أوروبا الشرقية الى الانضمام اليه.


هناك مجموعة من المزايدين، من بينهم بوريس جونسون، دفعت في اتجاه الاستفتاء على الخروج من التحاد الاوروبي. لعب هؤلاء على مشاعر المواطنين السذج ومن بينهم عدد لا بأس به من الأجانب الذين يحملون الجنسية البريطانية. ضاق ذرع هؤلاء، وكان بينهم لبنانيون يحملون جوازا بريطانيا، بكثرة "الغرباء" في لندن!


سيفشل بوريس جونسون وسيكون فشله ذريعا. لا لشيء، سوى لانّه ليست لديه رؤية. يستطيع القاء خطابا جميلا ذا عبارات منمّقة وشعارات تجذب السذّج. ولكن ماذا بعد ذلك؟ ما لا يستطيع قوله هو ان بريطانيا  تتجه بخروجها من الاتحاد الاوروبي الى كارثة حقيقية. مهمّة الخروج، "من دون اذا او ولكن"، سيتولاها بوريس جونسون الذي لا يمتلك صفة القيادي الذي يرفض بيع شعبه الاوهام. لم يكن الخطاب الذي القاه بعد فوزه بزعامة حزب المحافظين سوى خطاب تسويق للاوهام محوره نجاحات في ميادين معيّنة، بينها الطبّ والأبحاث العلمية، لا يمكن لبريطانيا تسويقها. لم يجب عن سؤال في غاية البساطة. أي شركة عالمية ستستثمر في بريطانيا في حال باتت هناك حواجز جمركية تفصل بينها وبين دول الاتحاد الاوروبي الأخرى؟


تعلّمت مارغريت تاتشر من تجارب الماضي القريب. تعلّمت خصوصا من الفشل المستمر لحزب العمّال الذي افقر بريطانيا. وتعلّمت من حرب السويس للعام 1956، وهي حرب كشفت حدود القوّة البريطانية واستحالة عصيان الولايات المتحدة او السير في سياسات من خلف ظهرها.


يمكن للولايات المتحدة مساعدة بوريس جونسون في الازمة القائمة مع ايران. الأكيد ان هذه المساعدة ستكون مرتبطة بشروط أميركية. لكنّ ما لا يستطيعه الرئيس دونالد ترامب وادارته هو إعادة الحياة الى حكومة بريطانية ستجد نفسها عاجلا ام آجلا أسيرة مهمّة شبه مستحيلة، هي مهمّة الخروج من الاتحاد الاوروبي. ستخرج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي... ولكن الى اين ستخرج؟ هل تخرج الى الاوهام التي يسوّقها بوريس جونسون الذي لا يدرك ان الاوهام تبقى اوهاما مهما جرى تغليفها بكلام جميل لا ترجمة له على الأرض...  

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

خيرالله خيرالله

27 تموز 2019 00:00