16 آذار 2020 | 19:59

خاص

في ذكرى ميلادها: يا زمن الوفا، أهلك وين راحوا!؟ نجاح سلام صدح صوتها من بيروت إلى سماء العروبة...(١)

في ذكرى ميلادها: يا زمن الوفا، أهلك وين راحوا!؟
نجاح سلام صدح صوتها من بيروت إلى سماء العروبة...(١)
المصدر: زياد سامي عيتاني

زياد سامي عيتاني*

نجاح سلام أيقونة بيروت الفنية التي صدح صوتها سماء العروبة، فنانة إرتبط اسمها بالغناء الرشيق والطرب المحبب والأداء الفني الراقي والسلوك الأخلاقي المحافظ.

فنجاح سلام ولدت ونشأت في بيت فني عريق كونها إبنة الموسيقي وعازف العود محي الدين سلام الذي كان بالنسبة لها الأب والأستاذ والموجه الفني، بعدما كان ممتنعاً بشدة دخولها المعترك الفني، لأن إمتهان الفتيات للفن آنذاك يتعارض مع التقاليد الإجتماعية، خصوصاً وأن جدها كان عالماً دينياً.

في ذكرى ميلادها (١٣ آذار ١٩٣١) نوجه لها تحية من خلال الإضاءة عبر عدة أجزاء على مسيرتها الفنية المظفرة، سائلين المولى عزَّ وجل أن يشفيها وأن يمدها بوافر الصحة والعافية...



•بيروتية الولادة والنشأة والهوى:

حافظت وتمسكت نجاح سلام طيلة مسيرتها الفنية الزاخرة بجذورها البيروتية النقية الأصيلة، بما تنطوي عليها من قيم ومبادئ أخلاقية، وهي المتحدرة من عائلة عريقة في بيروتيّتها وفي تقاليدها المُحافِظة ، فلم تَشُب حياتها الشخصية ولا الفنية أية شائبة، بل بقيت على ثباتها في مواقفها الفنية والوطنية والشخصية من حيث إحترام الذات والعقيدة والآخر.

كيف لا؟ وهي بيروتية حتى الصميم، حفيدة عالم وعلامة ديني مشهود بعلمه وورعه وتقاه، وإبنة عازف العود الرائع محي الدين سلام وقريبة رئيس الحكومة صائب سلام، ولدت في محلة الطريق الجديدة لما كانت عبارة عن فسحة واسعة من الرمول وأشجار "الصبير"، ومنازلها معدودة، ثم ترعرعت في منطقة البسطة (قلب بيروت النابض بالوطنية والعروبة والشهامة)، فآكتسبت حتى الرسوخ المزاج البيروتي بكل منظومته الإجتماعية والثقافية والشعبية، الذي كان كفيلاً بأن يرسم ملامح شخصيتها، ومن ثم هويتها الفنية...

•التأثر بوالدها:

إرتبط الذوق الفنّي-الغنائي عند نجاح سلام في بيئة فنية بإمتياز لجهة الوالِد محيي الدين سلام عازِف العود والمُلحّن، ورئيس ومؤسّس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية آنذاك، والمُشرِف على إختيار الأصوات والمكتشف للكثير من النجوم.

فلم تعتمد نجاح سلام على صوتها الشجيّ فحسب، بل أرفقتهُ بمعرفةٍ غنائيةٍ نهلتها من أستاذها ( والدها) الذي رعى نشأتها الفنية وعلّمها أصول الغناء، مُضيفاً إلى موهبتها الفطرية العِلم الموسيقي، ما مكنّها من قُدرتها التي نعرف، وبريق حضورها في عالم الغناء.



•من تلاوة القرآن إلى الترتيل:

فقرابة العام 1940- 1941، إكتشف والدها جمال صوتها في تلك الفترة المبكرة، حين كانت في مدرسة الحاج سعد الدين الحوري الملاصقة لبيتها، حيث كانت تقرأ القرآن في "طابور" الصباح، وكان الملعب يطل على غرفة نوم والدها، ومنذ ذلك الوقت أدخلها إلى مدرسة "زهرة الإحسان" وهي مدرسة راهبات داخلية ليقطع الطريق عليها، كون المدرسة شديدة، فيها قسوة. فكانت مسألة محزنة بالنسبة لها.

في اليوم الأول من إلتحاقها بمدرستها الجديدة كانت مكتئبة، لكن في اليوم الثاني زال الاكتئاب، حينما سمعت رخامة صوت الراهبة ماري، المسؤولة عن تدريب الكورس في الكنيسة، ففرحت جداً وقالت لها إن صوتها حلو وأنها راغبة في الاشتراك في الكورس في الكنيسة. إعترضت الراهبة ماري على أساس أنها مسلمة(!) فأجابتها بشجاعة المؤدبة وهي يومها في التاسعة من عمرها: "عيب، الذي أعرفه أن المطران مبارك كان يزور جدي الشيخ عبد الرحمن وله صور كثيرة تجمعهما"... وهكذا بدأت صباح كل يوم ترتل مع مجموعة الكورس، فوجدت في ذلك متنفّساً لها.

•أول حفلة في الجامعة الأميركية:

بعد ذلك أصبحت تغني في الحفلات المدرسية نهاية كل عام، بحيث صاروا يستدعونها من مدرسة إلى أخرى.

في عام 1942، كان أول حفل لها في "جونيور كوليدج" في الجامعة الأميركية، في قاعة "الوست هول"، حضرها الرئيس صائب سلام والزعيم أنطوان سعادة.

في تلك الحفلة، كان "شامل ومرعي" يعرضان مسرحية "خدعوك" وطلبا منها الغناء في وسط العرض، وكانت يومها مازلت في "زهرة الإحسان"، في تلك الحفلة غنت "أسقنيها" لأسمهان، و"يا أم العباية"، لم تصدق حين سمعت التصفيق الكثير، فصارت تنظر حولها ووراءها وتتساءل بينها وبين نفسها إن كانوا يصفقون لها أو لغيرها، على الرغم من أنها كانت مدركة في قرارة نفسها تماماً لمعدن صوتها ولأذنها الموسيقية.

وفي تلك الأمسية إلتفت أنطون سعادة إلى الرئيس صائب سلام وقال له: "يا صائب بيك، ما بيكفيكن السياسة، كمان الفن بدكن تاخدوه!؟"...



•غضب الوالد، وإنقسام العائلة:

غضب والدها جداً حين علم أنها تطلب إلى الحفلات المدرسية، لأنه لم يرغب بدخولها الفن بهذه الطريقة، بل بالتعلم على الأصول أولاً، لكن ظروف العائلية لم تكن تسمح، خاصة أن جدها عالم دين معروف، والعائلة المحافظة إنقسمت حينها بسببها إلى قسمين بين مؤيد ورافض، حيث لم تمتهن بنات العائلات في ذلك الزمان الفن، بل كان مهنة اليهود في الغالبية!!!

•اللقاء مع عبد الوهاب:

في العام 1947 علمت نجاح سلام أن عبد الوهاب آت إلى بيروت، توسلت والدتها للذهاب إلى الإذاعة بصحبة والدها لرؤية عبد الوهاب، لكن كما كان متوقعاً الوالد رفض إصطحابها لرؤيته، لكن والدتها أقنعته بعد جهد وجدل طويل أخذها معه، حيث وقفت وسط المحتشدين لملاقاة عبد الوهاب وكانت أصغر واحدة بينهم، تقف على رؤوس أصابعها كي تتمكن من رؤيته.

وعبد الوهاب كان لمّاحاً وذكياً سأل والدها حينما شاهدها: "البنت الصُّغيرة هناك مين دي"؟ نظر والدها إليها وقال له: "بنتي نجاح". سأله: "صوتها كويس"؟ أجابه: "لا عادي مثل الناس".

عندها عرفت نجاح بأن الفرصة سنحت، فأزاحت الناس من أمامها بسرعة وإخترقتهم وصولاً إلى عبد الوهاب، وهي تتخيل العلقة الساخنة التي تنتظرها في النهاية.

سألها: "ما اسمك يا شاطرة"؟ قالت: "إسمي نجاح" (باللهجة المصرية). قال: "بتحبي تغني؟ أجابته: "آه، وأنا حافظالك كثير". فغنت له "إيه جرى يا قلبي إيه"، أمام والدها الغاضب، الذي طلب منه عبد الوهاب أن يحضرها في اليوم التالي إلى "بالاس أوتيل" في بحمدون، لكي يسمعها على رواق.

بعد العودة إلى البيت كانت معركة حامية الوطيس جعلت والدتها تهرب إلى غرفتها. وبقي الجدال طوال الليل.

•عبد الوهاب يقنع والدها بعدم الحجر الفني عليها:

في اليوم التالي إصطحب مصباح سلام شقيق الرئيس صائب سلام نجاح ووالدها للقاء عبد الوهاب، الذي سألها: "تحبي تغني"؟ فأجابتها على الفور بالإيجاب، فطلب منها أن تسمعه ما تحفظه من الأغاني، فغنت على مسمعه عدد من أغنياته الذي أداها في فلمه الذي كان يعرض له "لست ملاكاً"، وكان بين كل أغنية وأغنية يقول: "ألله ألله"، وإمتدت يومها السهرة، وفي نهايتها قال عبد الوهاب لوالدة نجاح: "شوف يا محيي الدين، كل مائة سنة لما يطلع فنان له شخصية بصوته. يعني تفتح الراديو تقول ده عبد الوهاب، أو تقول ده فريد، دي نجاح. إنت بتكون مجرم إذا حجرت على البنت. ثم إن البنت مش متعلمة فنياً، لكنها تغني بالفطرة، لها رأي فيما تقوله، غنت أغنياتي وأضافت من دون أن تعرف ما تفعل، لكن إضافتها جميلة جداً"... لكن والدها قال له: "الظروف لا تسمح فالوالد شيخ وعالِم معروف". فجاوبه عبد الوهاب: "يا سيدي العلماء كثر. لكن الفنانين الصادقين قلة".

المهم أن نجاح في تلك السهرة، كانت ترجو عبد الوهاب مرات ومرات إقناع والدها بأن تغني، وخلصت تلك الليلة من عنده وكان الاتفاق: "إن شاء الله".

والمقصود بالنسبة للوالد، أنه عندما تنهي دراستها، فلا يمكن لإبنته الذهاب إلى مصر بلد أم كلثوم وعبد الوهاب والعمالقة وهي لا تحمل الشهادة، بل يجب أولاً أن تكون لغتها العربية الفصحى سليمة، ومخارج الألفاظ صحيحة، لتستطيع الوقوف بين الكبار، وتغني القصائد والأغاني الصعبة.

وبالفعل أتى لها والدها بأستاذ علّمها القواعد وأصول اللفظ وغيرها، تمهيداً لدخولها عالم الفن والطرب...

-يتبع: رحلة مصر الأولى.

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

16 آذار 2020 19:59