2 أيار 2020 | 14:04

منوعات

‏"المسحراتي".. كروان شهر الصيام

تراث رمضان(٨):‏


زياد سامي عيتاني*‏


‏"يا نايم وحد الدايم، يا نايم وحد الله...‏

قوموا على سحوركن، اجا رمضان يزوركن...‏

رمضان كريم... رحمن رحيم...‏

يا صايم... بتلقى السعادة، بتلقى النعيم...‏

رمضان كريم... رحمن رحيم..‏

من منا لا تسحره هذه العبارات التي كان يرددها "المسحراتي" بصوته الجهوري الجميل في ‏حارات وأزقة بيروت وهو ينقر على طبلته التي لاتفارقه، موقظاً الناس للسحور، لتعيده إلى ذلك ‏الزمن الذي كنا نشعر فيه حقيقة بأجواء رمضان بنورانياته ونفحاته وأجوائه الإيمانية الساحرة؟

ف"المسحراتي" ظاهرة، رمضانية قديمة، وتقليد تراثي عريق بين العصور والأجيال منذ زمن ‏بعيد، إرتبط بشكل وثيق بشهر رمضان المبارك وصار ملازماً له.‏

فبمجرد ذكر رمضان، على الفور يجول في الأذهان "المسحراتي"، خصوصاً وأن طبلة ‏‏"المسحراتي" لها إيقاع خاص في ذاكرة المعمرين، لأنه يعيدهم إلى أيام خلت عندما كانوا ‏يتسحرون على أنغام طبلته وصوته الشجي.‏

‏**‏



‏•قدم المسحراتي من عهد الرسول:‏

إرتبطت مهنة المسحراتي بالصيام في شهر رمضان، وكان الصحابي الجليل بلال بن رباح ، ‏أول مؤذن في الإسلام ، وابن أم مكتوم، يقومان بمهمة إيقاظ المسلمين للسحور، فكان بلال يطلق ‏صوته بالآذان، فيبدأ المسلمون في تناول السحور، ومع إقتراب الفجر، يتولي ابن أم مكتوم النداء ‏مرة أخرى، ليعلن الناس بالإمساك.‏

ومع تطور الدولة الإسلامية وإتساع رقعتها، إستخدم أهل الدول العربية، من العرب والموالي، ‏وسائل متعددة لإيقاظ الناس للسحور، فكان أهل بلاد اليمن والمغرب العربي، يدقون الأبواب، ‏وفي الشام كانوا يطوفون عل البيوت ويعزفون علي العيدان والطنابير، وينشدون أناشيد خاصة ‏برمضان، وفي مصر إستخدموا الطبلة لأول مرة، لإيقاظ الصائمين.‏

‏**‏



‏•المسحراتي في بيروت:‏

تأثرت بيروت وتفاعلت خلال الحقبة الماضية وفي عصرنا الحاضر بظاهرة "المسحراتي"، الذي ‏صار مع مرور الزمن يشكل جزءاً أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليداً ملازماً له. فما أن ‏يهل هلال رمضان حتى يتطوّع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة "المسحراتي"، بعدما ‏يكون ارتدى زياً خاصاً، فيجول في الشوارع ليلاً ضارباً على طبلته بقضيب من "الخيزران" ‏ومرسلاً صوته الشجي بأناشيد دينية ومناداته للناس بأسمائهم ودعوتهم لتناول طعام السحور.‏

فقبل الإمساك بحوالي ساعتين، يبدأ المسحراتي جولته الليلة في الأحياء الشعبية، ينادي علي ‏الأهالي بأسمائهم، وينتظره الأطفال في النوافذ، ويقذفون له الحلوى، لينادي عليهم بالاسم.‏

‏**‏



‏•المسحراتيون ومدح النبي:‏

وكان "المسحراتي" بين الحين والآخر، يقف لينشد مديحاً في رسولنا الكريم بلحن شجي، أو ‏إبتهالاً دينياً يُسبّح فيه الله ويمجده بصوت رخيم يفيض محبة وتقوى، فتسمع مناجاته في كل ‏منزل، بعد أن تكون قد شقت السكون المخيم، فيضفي على ليالي رمضان أجواء من الكسينة ‏تمتزج فيها الرهبة والخشوع بالسعادة والفرح.‏

وكم يذكر المعمرون بلاغة الأناشيد القديمة، ومن نماذجها:‏

يا نائم الليل كما ذا تنام

قم واذكر الحي الذي لا ينام

مولاك يدعوك لرحمته

وأنت مشغول في طيب المنام...‏

‏**‏




‏•فرقة مسحراتية:‏

جرت العادة قديماً في كثير من أحياء بيروت أن تجول جوقة من "المسحراتية"، هي عبارة عن ‏مجموعة من المنشدين ينشدون أشعار التسحير على أنغام الرق والمزاهر، فتخرق أصواتهم ‏سكون الليل لتُسمع مناجاتهم في كل الأرجاء.‏

‏**‏




‏*مواصفات "المسحراتي":‏

كان يُفترض بـ "المسحراتي" أن تتوافر فيه شروط ومواصفات لا بد من أن يتمتع بها حتى ‏يحظى بشرف تولي أمر التسحير. يجب أن يكون ذا ثقة عند الناس وحسن السمعة وأن يتمتع ‏بصوت جميل وأن يجيد الإنشاد وشعر التسحير وأن يعرف كل سكان المحلة التي يجول فيها.‏

فمن المعروف أنه لم يكن يتولى أمر التسحير إلا من يجد في صوته رقة تجعل إنشاده محبباً ‏وبيانه حسناً وإشارته لطيفة.‏

وكان "المسحر" في بيروت القديمة يعرف كل سكان الحي، لذلك فأنه في جولاته بطبلته كان ‏ينادي كل صاحب دار باسمه أو بكنيته "يا أبا فلان" فإذا أجابه قال له: وحد الله. ‏

اذلك، جرت العادة قديماً وفي الأسبوع الأخير من شهر شعبان، عندما يتطوع أحد أبناء المحلة ‏بأخذ المبادرة للقيام بمهمة "المسحراتي"، أن يطوف على البيوت والمنازل ليكتب أسماء من ‏إستجد من الأطفال والسكان، حتى يذكر أسماءهم ويدعوهم للسحور، عندما يبدأ شهر رمضان.‏

ولم يكن المسحراتي خلال الشهر الكريم، يتقاضى أجراً، بل كان ينتظر حتى أول أيام العيد فيمر ‏بالمنازل منزلاً منزلاً ومعه طبلته المعهودة، فيوالي الضرب على طبلته، فيهب له الناس المال ‏والهدايا والحلويات، ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد.‏

ومن تقاليد التسحير أن لكل "مسحراتي" منطقة نفوذ لا يتخطاها زميله في هذه المهنة المؤقتة، ‏لأنه سوف يحصل من أبناء المنطقة على أجر تسحيره.‏

وقديماً كانت تحدث مشاجرات بين مسحراتي وآخر يتعدى على منطقة نفوذ زميله، فيقال في ‏المثل: "إنت لح تطبل في المطبل؟!"، أي أن هذه المنطقة تم التطبيل وتسحير الناس فيها فلا ‏داعي لإعادة التطبيل.‏

‏**‏

‏"المسحراتي"، هو كروان شهر رمضان ونجمه من الزمن الجميل ما يزال ظاهرة رمضانية ‏راسخة تقاوم كل أشكال الحداثة والتطور لتضفي على رمضان أجواءه التراثية المحببة...‏



‏- يتبع: تاريخ وتطور "المسحراتي.‏


‏*إعلامي وباحث في التراث الشعبي-عضو جمعية تراث بيروت.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

2 أيار 2020 14:04