21 أيار 2020 | 13:32

منوعات

توحيش رمضان والجمعة اليتيمة .. "الوداع الحزين"‏

تراث رمضان (الجزء الأخير):


زياد سامي عيتاني*


ساعات قليلة وينتهي شهر رمضان المبارك، ومع نهاية الشهر الكريم ، إنتشرت بعض العادات منذ قديم الأزل والتي لا يزال البعض يقوم بها في وداع هذا الضيف الغالي؛ كنوع من إظهار الحزن والأسى على فراقه.

فقد جرت العادة في العشر الأواخر من رمضان، أن يودع المسلمون الشهر الكريم بمظاهر الألم والحزن والتحسّر لقرب رحيله.

والعشر الأخيرة من رمضان كان يسمى "أيام التوحيش"، وكلمة التوحيش من الوحشة التي يشعر بها الصائم لمفارقة شهر رمضان...

**



•ولا أوحش منك يا رمضان:

هذه العادة القديمة تعرف بـ (التوحيش) أو (توحيش رمضان)؛ فهي نوع من الأناشيد الدينية التي ترتبط بوداع رمضان، حيث إعتاد مؤذنو المساجد قديما في الأيام الأواخر من شهر رمضان المبارك، توديعه بكلمات ذات نبرات مؤسية، ونغم حزين، لها وقعها على المستمعين، ويقولون: "لا أوحش الله منك يا رمضان لا أوحش الله منك يا شهر القرآن لا أوحش الله منك يا شهر الصيام لا أوحش الله منك يا شهر القيام لا أوحش الله منك يا شهر الكرم والجود لا أوحش الله منك يا شهر الولائم"...

قال الخوارزمي في معنى: "لا أوحش الله منك"، أي لا أذهبك الله، فتوحش أحباءك من جانبك بالفراق.

ويردد الموشحون في "التحنين" كلمات أخرى تحمل طابع الدعاء، كقولهم:

"يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت

يا حنَّان يا منَّان.. أجرنا من عذاب النار

يا ذا الجود والإحسان ثبتنا على الإيمان

صلى الله ربنا على النور المبين

أحمد المصطفى سيد العالمين

وعلى آله وصحبه أجمعين

اللهم بجاه الحبيب توفنا مسلمين".

**



•قدم عادة التوحيش:

والتوحيش عادة قديمة تختلف بين بلد وآخر. وللدلالة على قدم عادة توحيش رمضان، يشير المؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري الى أنه عُثر في مكتبه "الاسكوريال" في اسبانيا على أقدم مخطوطة تحمل عنوان: "وداع رمضان المعظّم" لإبن الجوزي المتوفى سنة 1200م. ولذا يمكن القول بظهور تلك العادة على الأقل منذ القرن السادس للهجرة.

**



•"التوحيش" في بيروت:

في بيروت فقد شاعت عادة "التوحيش" مع إقتراب شهر رمضان من نهايته، مع أواخر القرن الماضي وأصبحت تلك العادة من مقومات العبادة حتى أن الدولة العثمانية سنّت التوديع وأمرت بإبقاء المصابيح والإكثار منها في سائر ليالي رمضان وأمرت المؤذنين أن يحتفلوا لهذه الأوقات الشريفة ويكثروا فيها من التسابيح والتهليل وينشدوا القصائد الموضوعة في المديح النبوي.

وقد روى الشيخ عبد القادر قباني في صحيفته "ثمرات الفنون" أن السلف الصالح في بيروت كان يحيي الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك بالقيام والخشوع وتلاوة القرآن الشريف، وكان الإنسان إذ مرّ في أحياء البلدة (بيروت) لا يسمع إلا تلاوة القرآن، وكانت مجالس القوم عامرة بذلك".

ومنذ ذلك الوقت بقيت عادة "التوحيش" قائمة في مساجد بيروت التي كانت تضاء أنوارها ويرتادها المؤمنون بكثرة وتقام في رحابها الصلوات وحلقات الذكر والإنشاد والدعاء وختم القرآن الكريم، وكانت فرق الإنشاد النبوي تطوف الشوارع في أوقات السحور حتى تبلغ الجامع العمري الكبير قبل إقامة صلاة الفجر.

**


•الإحتفال بليلة القدر المعظمة:

وكان الإحتفال بليلة القدر المعظمة في سائر مساجد بيروت، يندرج في سياق "توحيش" رمضان، لما لها من شأن وقدر عظيمين ينتظر المسلمون فضائلها من عام لعام.

فالإحتفال بليلة القدر المباركة خلال العشر الأخيرة من رمضان، ويظن أنها تصادف يوم 27 منه يكتسب قيمة دينية خاصة عند المسلمين بصفتها خير من ألف شهر، لأن في ليلة القدر نزل القرآن الكريم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ففي ليلة السابع والعشرين يجتمع الناس في المساجد ويؤدون الصلوات ويستمعون الى الذكر والأوراد ويتلون القرآن الكريم ويبتهلون الى المولى ويدعونه بقلوب خاشعة راجية يغمرها التقوى والايمان.

وكانت ليلة القدر في بيروت تكتسب ميزة خاصة، فبالإضافة الى الاحتفالات التي كانت تعم مساجدها وجوامعها وزواياها الشريفة، كانت تفتح أبواب الحجرة التي كان موضوعاً فيها الأثر الشريف في الجامع العمري الكبير، (الذي هو عبارة عن ثلاث شعرات من لحية النبي صلى الله عليه وسلم، أهداها السلطان العثماني الى مدينة بيروت)، وذلك للتشرف والتبرك بها.

يذكر أنه في الحقبة العثمانية، كان يحضر الوالي والأعيان للتشرف بزيارة الأثر المذكور في تلك الليلة المباركة، قبل تتوافد عامة الناس للتبرك له.

إذن، الإحتفال الرسمي بليلة القدر المشرفة، كان يقام في الجامع العمري الكبير، بصفته أقدم وأكبر جوامع بيروت (قبل تشييد جامع محمد الأمين)، إذ كان يزين مدخله، وساحته والشوراع المؤدية إليه بالأنوار والزينات، وكانت ترش بالمياه، وترفع اليافطات المعظمة للمناسبة، وتستقدم الفرق الكشفية للترحيب بالشخصيات الرسمية والدينية، وكان يتخلل الإحتفال الكبير وسط حشود المؤمنين، كلمة لسماحة مفتي بيروت (قبل أن يتحول المقام إلى مفتي الجمهورية اللبنانية)، كما كان يتعاقب القراء على تلاوة القرآن الكريم، في حين كان المنشدون وفرق المديح يحيون الليلة المباركة بالإنشاد والإبتهال والمديح والدعاء.

فالنوم في ليلة القدر كان يخاصم جفون الصائمين الذين كانوا يذوبون في العبادات من صلاوات وختم للقرآن ومديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تهتز القلوب خشوعاً ورهبةً وتملؤها نفحات روحية وإيمانية، تقربهم من الله سبحانه وتعالى.

**



•توحيش "المسحراتية" بيروت:

وفي الماضي، لم يكن التوحيش يقتصر على المنشدين المحترفين في مساجد بيروت فحسب، بل كان يلجأ "المسحراتي" إلى تغيير موضوعات أدائه أثناء جولاته إلى "التوحيش"، حيث يملأون الأرجاء بتوحيشهم الذي يواصلونه من الإمساك حتى آذان الفجر.

وفي صوت ملؤه الأسى والحزن، كان المسحرون يرددون عبارات التوحيش، التي تحمل حزن الناس على إنقضاء الشهر الكريم وإحساسهم بالوحشة لغيابه، وافتقادهم لأجوائه العامرة بالخشوع والمحبة والتواصل.

ومن أشهر هذه النصوص:

شهر الصيام مفضل تفضيلا/ نويت من بعد المقام الرحيلا/ قد كنت شهراً طيباً ومباركاً / ومبشراً بالعفو من مولانا / بالله يا شهر الهنا ما تنسانا / لا أوحش الرحمن منك.

**



•الأطفال يوحشونه أيضاً:

بقدر ما كان الكبار يتحسرون على قرب رحيل وإنقضاء شهر الرحمة، فكان للأطفال طقوسهم الخاصة بالمناسبة، ربما حرصاً من الأهل على تدريبهم مبكراً على أن يعيشوا أجواءه.

فكان الأطفال في الأحياء الضيقة يتجمعون قبل الغروب، بعدما يكونوا قد تعبوا من اللهو واللعب، ليطوفوا على البيوت للحصول على بعض الحلوى، مرددين:

يا رمضان يا بو صحن نحاس،

يا داير في بلاد الناس،

سقت عليك أبو العباس،

تخليك عندنا الليلة.

كما ينعونه بمزيد من الأسى قائلين :

يا رمضان يا ابن الحاجة،

يا ميت على المخدة،

يا رمضان يا ابن عيشة،

يا ميت على العريشة.

**

• التوحيش في مكة قديماً:

كما أشرنا في المقدمة، فإن "التوحيش" عادة قديمة. وللدلالة على قدمه نورد أنه في الحرم المكي الشريف كان يحتفل بالعشر الأواخر من رمضان، وكان يُختَم القرآن الكريم في كل وتر في الليالي العشر الأواخر بحضور القاضي والفقهاء.

ويشير إبن جبير في رحلته "اجتهاد المجاورين للحرم الشريف" الى ليلة إحدى وعشرين بقوله: ..."فأولها ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور الى منزله الى طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما".

ثم يتطرق الى ليلة ثلاث وعشرين فيقول: "وكان المُختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً. وذلك أنه أعد له ثرياً مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، ورُبطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسُمّر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غُرز"....

**




•الجمعة "اليتيمة" في مصر:

رغم أن الفقهاء والعلماء ينفون وجود أي سند شرعي لما يطلق أهل مصر على آخر يوم جمعة من رمضان من تسمية الجمعة "اليتيمة" أو "الحزينة"، فإن هذه التسمية هي مجرد سلوك إجتماعي مرتبط بالعادات والتقاليد الراسخة.

يرجع البعض تسمية آخر جمعة من رمضان باسم "الجمعة اليتيمة" بهذا الاسم؛ لأنها لا أخت لها بعدها في هذا الشهر، وكانت الحشود الهائلة تجتمع من ذي قبل لأداء الصلاة بأول مساجد مصر وأفريقيا المعروف بـ "المسجد العتيق" أو بـ "تاج الجوامع" الشهير بـ " مسجد عمرو بن العاص"، حيث كانت تحضر إليه من جميع أنحاء القاهرة وأحيانا من خارجها، وكان حكام مصر من الأسرة يحافظون على هذا التقليد من سنة 1805 – 1952، حيث يصلون صلاة الجمعة اليتيمة في هذا المسجد الشهير. وكان يتم فرش المسجد بفرش خاص من الحرير، وتعلق على المحراب ستارتان من الحرير الأحمر عليهما عدد من قصار السور، وكان قاضي القضاة يقوم بتبخير المنبر بأجود أنواع البخور بواسطة مبخرة مصنوعة من الفضة المطعمة بالذهب، ويأتي الخليفة في موكب مهيب يرتدي ملابس بيضاء اللون إستعداداً لصعود المنبر وإلقاء الخطبة. (وفقا لما جاء في كتاب: "شهر رمضان فى الجاهلية والاسلام" لأحمد المنزلاوى‎).

**

ناصر يؤديها في الأزهر:

ظل أداء صلاة الجمعة اليتيمة بأحد المساجد الكبرى بالقاهرة من التقاليد الملكية والرئاسية لسنوات طويلة، ربما تأثرا بالوجدان الشعبي الذي يحرص على صلاة آخر جمعة في رمضان قبل توديع الشهر وانتظاره لسنة كاملة.

الملك فاروق كان من أوائل حكام مصر الحديثة الحريصين على أداء صلاة الجمعة اليتيمة في مكان عام، إذ كان يؤديها إما في جامع السيدة زينب أو جامع عمر بن العاص في الأغلب.

وبعد ثورة يوليو مباشرة أدى الرئيس محمد نجيب الجمعة اليتيمة في الأزهر، وهو نفس المسجد الذي اختاره الرئيس جمال عبد الناصر الذي يعتبر الأكثر مواظبة على الاحتفال بهذا اليوم طوال سنوات حكمه.

**

وفيما رمضان يتهيأ للرحيل، بعدما حلَّ علينا ضيفاً عزيزًا، مقرباً بين القلوب ومهذباً للنفوس، صمنا أيامه وقمنا ليله، وعشنا أجواءه بالبهجة والسرور، رغم ما أصابنا من وباء وبلاء، نسأل المولى أن يجعلنا من عتقائه ومن المقبولين.

وها أنا ألملم أوراقي المبعثرة، وأفكاري المشتتة، وخيبتي مما بلغناه من النفاق، وأمضي... بعدما عشنا ذكريات عاداته وتقاليده الإجتماعية بكل جمالياتها، مشدودين للحنين إليها....


-إنتهى.


*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

21 أيار 2020 13:32