23 أيار 2020 | 22:42

فن

"يا ليلة العيد آنستينا" لأم كلثوم.. ما هي قصة هذه الأغنية الشهيرة!

زياد سامي عيتاني*


تطل علينا سيدة الغناء العربي وكوكب الشرق كل عيد لتشدو بصوتها الشجي الرخيم "يا ليلة العيد"، معلنة ومبشرة ببهجة إنطلاق قطار العيد ليزف نسمات السعادة والفرح والسرور إلى قلوب ونفوس الصغار والكبار على حد سواء.

 وعلى الرغم من مرور ما يقرب سبعة عقود على غنائها للأغنية؛ إلا أنها تبقى هي الأشهر في إحياء الجو الروحاني لقدوم العيد لما لها من شعبية ووقع مميز عند العالم العربي بأسره عن باقي الأغنيات الأخرى، مع حلول عيدي الفطر والأضحى.

سنحاول في هذه المقاربة أن نعيش في رحاب "الست" ونحضر معها أحد أهم الحفلات في تاريخها الفني والسياسي أيضا، نبحث وراء قدراتها الفنية والسياسية والارتجالية....

**



•قصة الأغنية تبدأ من بائع متجول:

فلتلك الأغنية قصة غريبة، وكانت سبباً في نيل أم كلثوم أهم وسام في البلاد آنذاك.

فعندما كانت سيدة الغناء العربي ذاهبة إلى مبنى الإذاعة القديم، في شارع الشريفين وسط البلد، لتسجل إحدى أغانيها، سمعت وقتها أحد البائعين الجائلين وهو ينادي على بضاعته "يا ليلة العيد أنستينا"، لتتعلق بالكلمات بشكل غريب.

وعقب دخولها إلى الإستديو طلبت من الشاعر بيرم التونسي أن يكتب لها أغنية للإحتفال بالعيد، وأن يكون مطلعها هذا المقطع الذي سمعته من البائع.

وبالفعل شرع التونسي في كتابة الأغنية ولكنه لم يكملها لمرضه، فطلبت سيدة الشرق من أحمد رامي أن يكمل الأغنية، التي بدأها بيرم.

و أكمل رامي الأغنية (الشاعر الأقرب إلى نفس أم كلثوم ومزاجها) ولحنها زكريا أحمد،  وغنتها أم كلثوم على الهواء مباشرة مساء ليلة عيد الأضحى المبارك عام 1937.

وعقب صدور الأغنية بعامين، تم إعادة التلحين على يد الموسيقار رياض السنباطي، يوم وقفة عيد الفطر المبارك عام 1939 لتصبح بصورتها النهائية التي عرفها المستمع إلى الآن.

**




•الأغنية كانت مخصصة لفيلم دنانير:

ما لا يعرفه كثيرون هو أن هذه الأغنية قدمتها أم كلثوم في فيلم دنانير، الذي لعبت بطولته أم كلثوم أمام سليمان نجيب وعباس فارس وفؤاد شفيق وإخراج أحمد بدرخان، وصادف أن عُرض الفيلم في صالات السينما، أول مرة، في شهر رمضان المبارك، حيث يترقب الناس، بعد انتهائه، مجيء عيد الفطر السعيد، فتكّون انطباع لدى الناس أن الأغنية كُتبت ولحنت وغنيت خصوصاً للعيد القادم.

واللافت أن أم كلثوم أصرت على حذفها لاحقاً من أحداث الفيلم، لترتبط أكثر بليلة العيد، ولتغنيها في حفلات خاصة، ويزول ارتباطها بمشاهد الفيلم.

***

•غناؤها في النادي الأهلي والمفاجأة:

ولم تنته قصة تلك الأغنية عند ذاك الحد، فكانت الحفلة الأشهر التي غنت فيها أم كلثوم هذه الأغنية في حضور ملك مصر، الملك فاروق، فى عيد جلوسه، الذى أقيم بملعب مختار التتش، أو النادى الأهلى فيما بعد، إذ كانت أم كلثوم تقدم حفلات كثيرة في النادي «الأهلي» في الأربعينيات والخمسينيات.

وفي ليلة العيد كانت الأجواء مستعدة لاستقبالها في مثل هذا اليوم، يوم وقفة عيد الفطر في عام 1944، وبالتحديد الموافق 17 سبتمبر، نحن أمام حفلة مرّ عليها أكثر من 70 عامًا، ولكن تبقى بأجوائها وأغانيها بكامل أناقتها وجمالها، وربما زادها الزمن جمالًا.

وبدأت أم كلثوم وصلتها الأولى فعزفت الفرقة "ذكرياتي" لمحمد القصبجي، وغنت سيدة الغناء العربى، بعدها "رق الحبيب".

**




•الملك فاروق يحضر الحفلة:

كانت "ليلة العيد" هي أغنية الوصلة الثانية، وما إن غنت أم كلثوم المذهب الأول، وبعد أقل من دقائق من بداية الوصلة، بدأت حركة غريبة تدب في المكان، وإذ بمحمد حسين حلمي بك يهمس في أذن رئيس النادي الأهلي أحمد حسنين باشا، فينهض من مكانه مسرعًا نحو البوابة، ثم لحظات وتتوقف أم كلثوم وفرقتها عن الغناء.

بدأت تعلو أصوات الهتاف من الحاضرين «يعيش جلالة الملك.. يعيش فاروق  رئيس مصر والسودان»، والكل يصفق، فقد حضر الملك فاروق بسيارته الشخصية ودون سابق إخطار. توقف الغناء لمدة اقتربت من الربع ساعة، قبل أن يعلن مذيع الحفلة الأستاذ حافظ عبد الوهاب نبأ وصول الملك.

كل ذلك يمكن حدوثه دون الرجوع للفرقة الموسيقية، لكن ما حدث بعد ذلك، أنه حدث حوار مع الفرقة، وربما تدخل رامي في ذلك الموقف بجانب القصبجي، بداية من تهدئة أم كلثوم عند علمها بحضور الملك، أو لتمكينها من فعل ما تخطط له.

دخل الملك فاروق الحفل وجلس على طاولة أحمد حسنين باشا، وكان حينها رئيسا للنادي وللديوان الملكي، مع توقف الحفلة، وإضطراب أم كلثوم، كان يجب عليها التفكير في كيف يمكنها الاستفادة من هذه المفاجأة لصالحها، كيف تستطيع توظيف كل ما يحدث حولها، حتى ولو كان خارج تخطيطها، ليصبح وكأنه من تخطيطها. كانت الفكرة الأهم ليست أن تغني بشكل جيد وتبدع، فهذا أمر مفروغ منه. ولكن الآن، بدأت تفكر أنها يجب أن تضيف شيئًا آخر، شيئًا يكون به خصوصية أكثر للملك.

**



•الست تغير الكلمات تكريماً لفاروق:

كان المقطع الأخير من الأغنية، والذي كتبه رامي لأحداث الفيلم يقول: «يا دجلة ميّتك عنبر.. وزرعك في الغيطان نور.. يعيش هارون يعيش جعفر ونحيي لهم ليالي العيد»، وبعد حذف الأغنية من الفيلم، غيَّر رامي الكلمات  فمن «يا دجلة» إلى يا «نيلنا ميتك سكر»، ومن «يعيش هارون وجعفر» إلى «تعيش يا نيل وتتهنى».

إلتقطت أم كلثوم الخيط من هنا، وفكّرت في الرجوع إلى الأصل وتبديل كلمة «نيل» بـ «فاروق»، أيضًا تورية الكلام في الغناء وكأنه للملك، فغنت وبالطبع وهي تنظر للملك «هلالَك هلل علينا.. فرحنا له وغنينا وبكرة السعد حيجينا على قدومَك في ليلة العيد»، كان الهتاف يعلو من الحاضرين للملك.

كان الارتجال الأكثر ذكاء وسرعة بديهة، فقررت أن تختار مقطعًا يناسب الموقف وهو ليلة العيد، حيث يمكن أن يكون الكلام وكأنه موجه للملك، فتختار المقطع الأخير من أغنية زكريا أحمد «حبيبي يسعد أوقاته»، وتغير كلمة واحدة فقط، هي كلمة «حبيبي» الأخيرة لتجعلها «لك يا مليكي» بدل من «وأنت حبيبي». قالتها بعد ما ظلت ما يقارب العشر دقائق تغني وكأنها تتغزل في الملك بكلمات المقطع، وتبدع في الغناء لتجعله مستسلمًا لها، ثم تفاجئه مرة ثانية بالخصوصية في كلمة مليكي.




ليصبح المقطع الذي غيرت فيه "ثومة" بذكائها اللماع والفطري بعض كلماته كالآتي:

"النوم في ليلة العيد

يا نيلنا ميتك سكر.. وزرعك في الغيطان نور

يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد

حبيبي زي القمر قبل ظهوره يحسبوا المواعيد

حبيبي زي القمر يبعث نوره من بعيد لبعيد

والليلة عيد ع الدنيا سعيد

عز وتمجيد لك يا مليكي..."

**

•ذكاؤها يوازي صوتها الأسطوري:

يجيب هذا الموقف على سؤال لماذا أم كلثوم أسطورة فنية؟ فالأمر لا يعود لصوتها فقط، ولكن لذكائها البارع، وسرعة بديهتها في التعامل مع الظروف والأقدار، واستغلال الفرص لصالحها. كان هذا بالنسبة لأم كلثوم كافٍ جدًا. رضا الملك في ذلك الوقت، والاقتراب منه هو في حد ذلك نجاح فني وضمان أمان أيضًا، رغم أن الملك وقف أمام زواجها من خاله شريف باشا صبري قبل تلك الحفلة بسنوات قليلة.

**

•الحصول على "الكمال" ولقب "صاحبة العصمة":

أثار ذلك غبطة الملك ورضاه، فأنعم عليها ب «نيشان الكمال»، الذي يقال إنه يمنح للسيدات فقط، حيث استدعاها بعد الحفل وصافحها، فيما مذيع الحفل يعلن أن «الملك فاروق أنعم على الآنسة أم كلثوم بنيشان الكمال».

ليصبح لقبها بعدها "صاحبة العصمة"، وهو اللقب الذي لا يمنح سوى لأميرات الأسرة المالكة وقتها.

فهمّت أم كلثوم قائلة عبر مكبر الصوت: «سيداتي ساداتي تعطف صاحب الجلالة مولاي الملك المحبوب بتشريفه هذه الحفلة ومنحي وسام الكمال، فإني لا أجد من الكلمات ما أعبر به عن شعوري، وإني أدعو الله أن يمد في عمر الفاروق ويحفظه للبلاد ذخرًا».

في صباح أول أيام العيد، ذهب وفد من نقابة الموسيقيين، وعلى رأسهم أم كلثوم بشخصها، وبصفتها نقيبة الموسيقيين، إلى قصر عابدين لتقديم الشكر للملك، بشكل رسمي وشخصي في نفس الوقت. وبدأت تنهال على أم كلثوم برقيات التهنئة من داخل مصر وخارجها، وبدأت الإذاعات في أنحاء العالم تذيع الخبر، وبدأت المشاكل أيضًا داخل العائلة المالكة، فكيف لفلاحة مصرية أن تنال هذا الوسام وتصبح «صاحبة العصمة الأنسة أم كلثوم".

**



•رحيل الملك وبقاء الأغنية:

بعد سنوات لم يعد الملك ملكاً، أما الأغنية فظلت تعيش بيننا ومعنا، عابرة للزمن، وجيلاً وراء جيل، ظلّ الناس يرددون مع أم كلثوم، خاصة في مواسم الأعياد، الكلمات الرائعة للأغنية بلحنها الذي أجاده السنباطي.

يذكر أن الأغنية ظلت لسنوات طويلة، عقب ثورة يوليو، تذاع دون ذكر المقطع الأخير وما يذاع منها هو ما سجل فى فيلم "دنانير"، وليس الأغنية التى قدمت فى حفل الملك فاروق .

**

حتى يومنا، لا يكاد العرب في بقاع الأرض يدنو منهم عيد الفطر أو عيد الأضحى، حتى يتبادر إلى أذهانهم صوت أم كلثوم، وهو ينساب متغنِّياً بـ"يا ليلة العيد أنستينا"، تبشيراً وإحتفالاً بالعيد لتزداد فرحته فرحاً، سيما أنها تعد واحدة من روائع الأغنيات التي عبرت عن العيد وقدومه، لا بل أروعهم على الإطلاق...


*إعلامي وباحث في الترا ث الشعبي

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

23 أيار 2020 22:42