26 أيار 2020 | 20:58

منوعات

عيد بيروت.. بنكهة فرح "الزمن الجميل"(١)‏

عيد بيروت.. بنكهة فرح

زياد سامي عيتاني*‏


أما وقد مضى العيد، دون أن نشعر بالعيد، من جراء التباعد الإجتماعي "الكوروني"، الذي حرمنا ‏التلاقي الإجتماعي الذي هو ثمة العيد، بما تعودنا عليه من "لمة العائلة" وصلة الرحم وتعزيز ‏الروابط الإنسانية، وتبادل زيارات المعايدة، إضافة إلى باقي طقوسه ومظاهره الإحتفالية، التي ‏تحمل معها الفرح والسرور في نفوس الصغار والكبار على حد سواء...‏

فالحجر والحجز المنزلي، أعاد تنشيط ذاكرتنا التي شدتنا إلى الأيام الخوالي، أيام زمان، أيام ‏الخير والبركة، أيام ما كان للعيد بهجته ورونقه وعاداته وأجوائه المفعمة بالمحبة والألفة ‏والصخب الجميل، قبل أن يسرقها منا ويقضي عليها الزمن الكالح السواد...‏

‏**‏



‏•إستعدادات العيد:‏

‏ كنا نشعر بقدوم العيد، قبل بضعة أيام من حلوله، بكل ما سيحمله لنا من فرح وسرور، وجمع ‏شمل القريب والبعيد، و"لمة" العائلة، وثياب جديدة، ونقودٍ من جمع "العيديات"، لصرفها على ‏لهونا الذي لا يخلو من بعض الشقاوة البريئة.‏

فعلى وقع إحتفاليتنا المبكرة بقرب قدوم العيد ومع ترداد أهزوبة:‏

‏"بكرا العيد ومن عيد ومندح بقرة السيد..." كنا نتحضر ونستعد لإستقبال العيد، تمهيداً للإحتفال ‏به؛ فكما كنا نترقب "رمضان" شهر الخير والطاعات، بنفس الشوق كنا نتلهف لحلول العيد، ‏مصحوباً مع بدء ممارسة طقوس التحضير له.‏

و من علامات ودلالات إقتراب العيد، الزحمة الإستثنائية التي تملأ كل الأمكنة والأرجاء، التي ‏تعج بالحركة والبركة، فالجميع ينصرف إلى تحضير ما هو مطلوب منه إنجازه، حتى يأتي العيد، ‏فتكون كل الأجواء مآتية ومهيأة له...‏

‏**‏



‏• إستنفار مبكر في البيوت :‏

فالبيوت والمنازل كانت تشهد حالة إستنفار مبكر، فتتحول إلى ما يشبه خلية نحل تعج بالحيوية ‏والنشاط، وكن النسوة يتوزعن فيما بينهن العمل في المنازل بكل مودة وطيب خاطر.‏

‏**‏

‏•تعزيلة العيد:‏

‏ وأول ما يقمن به النساء كان تنظيف الدار خصيصاً للعيد، وعملية التنظيف هذه كانوا يسمونها ‏‏“تعزيلة العيد”، وهي تختلف عن غيرها بأن تشمل البيت بأكمله بكل جدرانه ومحتوياته وفرشه ‏ومقتنياته، وذلك حتى يكون جاهزاً لاستقبال الضيوف والمهنئين بالعيد من الأقارب والأصدقاء، ‏لأن شعارهم: "النظافة من الإيمان"، كذلك فإن المثل البيروتي القديم يقول: "غسل وجك ما ‏بتعرف مين ببوسو، ونظف بيتك ما بتعرف مين بدوسو"...‏

‏**‏

صناعة المعمول في البيوت :‏

بعد الإنتهاء من التنظيف، تأتي مرحلة صناعة المعمول المنزلي، "فلا طعم للعيد دون معمول أو ‏كعك العيد"، هذه العبارة طالما رددتها الأمهات والجدات على مر الزمان. فمعمول العيد يُعدّ من ‏أهم المظاهر الإحتفالية بمناسبة العيد، حيث كان يتم تحضيره قديماً في البيوت خلال الأيام ‏الأخيرة من شهر رمضان المبارك على أنغام أغنية أم كلثوم: "يا ليلة العيد آنستينا"... فكانت ‏النساء يعجن عجينة المعمول التي تفوح منها رائحة ماء الزهر وماء الورد، و"يدعكونها" ثم ‏يقطعوها وبعدها "يكوزوها" بشكل كرات صغيرة لوضعها في القوالب الخشبية وتجويفها نصف ‏تجويفة لإدخال "الحشوة" التي تكون إما من التمر أو الجوز أو الفستق الحلبي المبروش، فيقلبون ‏القوالب الخشبية ويطرقونها فتسقط المعمولة آخذة شكل نقشة القالب، حيث كان يخصص لكل ‏صنف نقشة خاصة للتمييز بينها، وبعدها أن تصف في الصواني ترسل عند "الفران" لخبزها ‏حتى تصبح "مأمرة تأمير" ليعيدها "صبي" الفران، فترش بالسكر الناعم وتوضع في صراني ‏الفضة، لتصبح جاهزة للضيافة. وكانت النساء يتفاخرن فيما بينهن، من أتقنت عن غيرها في ‏صناعة المعمول وأجوده عن غيرهن، دون أن يخلو المشهد من "التزريك" المحبب، لما بينهن ‏من مداعبات لطيفة...‏

‏**‏



‏•الماشطة ونقش الحناء:‏

أما قبل العيد بيوم فتحضر إلى المنازل "الماشطة" لتسرح شعر النساء والصبايا، في حين تكون ‏قد بدأت جلسات نقش الحناء، حيث تجتمع النساء ويقمن بتزيين أيديهن بأشكال ونقشات جميلة ‏ومختلفة من الحناء، تتضمن رسوم الأزهار والفراشات وأشكال الأساور والحروف والزخارف ‏وحتى كتابة أسمائهن على باطن اليد، وسط جو من المرح، مرددين أغنية: "الحنة الحنة يا قطر ‏الندى..."‏

‏**‏

‏•خياطة الحي:‏

الأسبوع الأخير من رمضان تكتسب خياطة الحي إهتماماً كبيراً، فهي محط إهتمام كل النساء ‏والصبايا، الراغبين بتفصيل "سركس" ( فستان) العيد، فتوصل الليل بالنهار لتلبية طلبات ‏زبائنها، فتشهد دارتها إزدحاماً من ستات الحي الذين يقضون وقتاً طويلاً عندها لأخذ المقاسات ‏ولحثها على إنجاز خياطة ثياب العيد دون إبطاء، فتتحول دارتها إلى جلسة نسوان، أشبه ‏بصبحياتهم، لكن من دون قهوة ولا أراكيل بحكم صيامهن، فتدور الأحاديث والحوارات فيما ‏بينهن عن الطبخ والنفخ وما شابه...‏

‏**‏

‏•عجقة "البلد":‏

أما وسط بيروت التجاري (البلد) أو (المدينة) فيشهد أواخر رمضان إزدحاماً غير مسبوق، ‏بشوارعه تعج بعجقة سير خانقة من قبل السيارات الخصوصية، وسيارات الأجرة من نوع ‏‏"مارسيدس" طراز ١٨٠ و١٩٠ ذات اللون الأسود، التي كانت مخصصة وقتها للنقل البري، ‏فكل الناس كانت تقصد أسواق "البلد" للتبضع ولشراء مسلزمات وإحتياجات العيد من ملبس ‏ومأكل وحلوى وضيافة العيد.‏

‏**‏



‏•شراء الملابس و"صباط" العيد:‏

فأول ما كان يِقصد أسواق "الطويلة" و"سرسق" و"أياس" وشارعي "فوش" و"ألمبي"، لشراء ‏‏"كسوة" (ثياب) العيد و"صباط" العيد، كل حسب ميزانيته، فكل سوق من أسواق بيروت كان ‏مخصصاً لفئة إجتماعية تتناسب وقدراتها المالية، فالجميع كان يجد ضالته.‏

‏ المحلات التجارية التي كانت تنتظر على أحر من الجمر، كانت تعج بالأهل الذين يصطحبون ‏أولادهم التي تغمرهم فرحة بما سيظفرون به من ثياب جديدة وحذاء "خلنج" ليتباهوا بها أمام ‏أصحابهم، فالمثل البيروتي القديم يقول: "شايف حالو أكثر من سرماية العيد"...‏

‏**‏





‏•الحلوى وضيافة العيد:‏

وبما أن الحلويات والسكريات ترتبط بالمناسبات السعيدة المفعمة بالسرور، فلا بد من أن تتزين ‏البيوت بما لذَّ وطاب من أصناف الحلويات، إكراماً للضيوف والمعايدين، لإضفاء على العيد ‏مزيداً من الحلاوة بطعم ومذاق النكهات المتعددة، خصوصاً وأنه قديماً كان يُطلق على عيد الفطر ‏‏"عيد السكر"، لأن الإنسان خلال أيام العيد لا ينفك عن تناول مختلف أنواع الحلويات.‏

فكانت الناس تقصد محلات الحلويات الصمدي والعريسي وكريدية ورمضان ودمشقية ‏والرشيدي، التي كانت تفوح منها لمسافة بعيدة رائحة السمن البلدي "الحديدي" المستورد من ‏حماه، وذلك لشراء البقلاوة المشكلة، والمعمول، للذين لم يعدوه في منازلهم.‏

كذلك، كانوا يقصدون "باتيسيري سويس" و"سميرا ميس" في باب إدريس لشراء "الكاتو"، لمن ‏أراد أن يغير عن الحلوى العربية، بعدما كانت حاضرة طيلة شهر رمضان.‏

وبما أن العيد لا يكتمل دون ضيافته الخاصة، فلا بد من زيارة محلات سعد وغندور وجبر ‏والحموي والحماصني والغراوي لشراء الشوكولاتة والملبس والنوغا والملبن وراحة الحلقوم ‏والحلاوة الطحينية، حتى تكون الضيافة بقدر المحبة وتليق بمناسبة العيد وبالمعايدين...‏

‏**‏



هكذا كانت التحضيرات والإستعدادات للإحتفال بعيد الفطر المبارك، لتكون فرحته متكاملة، ‏وأجواءه مفعمة بالسعادة والبهجة التي يجسدها في النفوس كل الناس، دون تمييز بين غني وفقير، ‏زمن التكافل والتعاضد والإنسانية...‏

‏**‏



‏-يتبع: إحتفالات العيد.‏

‏*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

26 أيار 2020 20:58