30 أيار 2020 | 13:10

منوعات

عيد بيروت.. بنكهة زمن الفرح الجميل!(٢)‏

عيد بيروت.. بنكهة زمن الفرح الجميل!(٢)‏

زياد سامي عيتاني*‏


نستكمل الإبحار من خلال مخزون الذاكرة بأجواء وتقاليد العيد أيام زمان من خلف هذا الحصار ‏الجزئي القصري، الذي فرضته علينا "كورونا" التي سرقت منا فرحته وألفته.‏

العيد كان فرحة تتكرر كل عام يستقبلها الجميع بشوق ولهفة، ففيها تصفوا النفوس وتتقارب في ‏هذا اليوم الجميل، السعادة تكون فيه عارمة وحاضرة للصغير قبل الكبير.‏

‏ ما بين زماننا الحاضر وزماننا القريب الفائت، طرأ الكثير في إستقبال فرحة العيد، فالكثير يظن ‏أن العيد قد فقد بريقه في أيامنا هذه بعد أن تغيرت أحوال المجتمع وتبدلت بما أفرزته الحضارة ‏المعاصرة من رفاهية التكنولوكيا الفاقدة للمشاعر الإنسانية!!! ‏

‏**‏

فبعد الإنتهاء من الواجبات العائلية من تزاور ومعايدات ولمة العائلة أول يوم من العيد عند ‏كبيرها، ينصرف الجميع إلى حياة اللهو التي كان نعد الدقائق للقيام بفعالياتها، والتي تخصص لها ‏أماكن ومناطق محددة، تعج بالناس المحتفلين بالعيد وسط أجواء عارمة من البهجة والسرورف، ‏سوف نتناول محطتين بارزتين منهما، هما: حديقة الصنائع والكورنيش البحري.‏




‏•حديقة الصنائع:‏

‏"جنينة الصنايع"، المسيجة بشجر الزعرور بحبيباتها الحمراء الصغيرة، وأشجار "البوانسيانا" ‏التي تنبت أزهارها الحمراء وأشجار "الجكرندا" التي تنبت أزهارها البنفسجية، ثم تتساقط فارشة ‏الرصيف بلونها الجميل ناثرة رائحتها العطرة في الأرجاء.‏

هذه الجنينة كانت محطة أساسية في برنامج أنشطة العيد، فلا بد أن يخصص لها يوماً، ننتظره ‏بلهفة شديدة، وذلك لركوب الدراجة الهوائية، دون أن نكون نعلم في حينه أن الحديقة هي معلم ‏بيروتي ذات طراز عثماني، إكتسبت تسميتها لقربها مما كان يعرف سابقاً بـ"مبنى الفنون الجميلة ‏والصنائع"، الذي أسسه العثمانيون، ثم تحوّل، مع مرور الزمن، إلى كلية الحقوق التابعة للجامعة ‏اللبنانية، ولاحقاً إلى مبنى المكتبة الوطنية، إضافك إلى مستشفى كانت ملحقة بالمعهد أيضاً، هي ‏نفسها تحوّلت إلى مقرّ وزارة الداخلية.‏

‏**‏



‏•إستئجار الدراجة الهوائية:‏

فكنا ثاني أيام العيد، بعد تجميع العيديات، نتجه إلى محلة الصنائع، حيث أن المحطة التي لا بد ‏منها قبل الدخول إلى "الجنينة" هي محل "العيتاني" لتأجير الدراجات، مقابل مدخلها، وكأن ‏إستئجار الدراجة بمثابة بطاقة الدخول إلى الجنينة، إذ أن إمتلاك تلك الدراجة في ذلك الزمن، ‏هو شبيه بمن يملك طائرة خاصة في زماننا(!) ‏

المحل رغم صغره، فهو بمثابة معرض لجميع أنواع وأحجام الدراجات الهوائية التي تناسب كل ‏الأعمار وترضي كل الأذواق، وتلبي مختلف الميزانيات، مركونة بشكل مزدحم في المحل، لا ‏أحد سوى أبو محمد يعرف كيفية ترتيبها وتوزيعها. كنا نختار دراجة من الحجم الصغير تناسب ‏أعمارنا، لها أربعة دواليب مخصصة للمبتدئين للحفاظ على توازننا.‏

‏**‏


الدوران بالبيسكلات حول البركة:‏

ما أن نحصل على دراجتنا،حتى ندخل مسرعين إلى الحديقة فرحين محتفلين بما تمكنا من ‏الحصول عليه، فيجلس الأهل الذين إصطحبونا على مقعد خشبي لمراقبتنا، والتدخل السريع في ‏حال تعرضنا لأي سوء، أو تشاجرنا مع غيرنا من الأطفال على أفضلية المرور، مستمتعين ‏بطيورها وأشجارها المعمّرة، لكسر الوقت وهم ينتظرون إنتهاء الفترة الممنوحة لنا لإستخدام ‏البيسيكلات قبل إعادة تسليمها، ولسان حالهم يقول: "دخلت مرة في جنينة/ أشم ريحة الزهور/ ‏واسلي نفسي الحزينة/ واسمع نشيد الطيور".‏

‏ فيما نحن نبدأ عملية الدوران بالبيسكلات في الجنينة حول البركة، المحاطة بشجيرات متوسطة، ‏التي غالباً ما كانت فارغة من المياه، رغم وجود في وسطها السبيل الحميدي، الذي نقل من ‏ساحة "عسور"، متمتعين بالركوب الموسمي للدراجة الهوائية، وكأننا ندور في حلبة "الفورميلا ‏وان"، من شدة فرحنا وبهجتنا.‏

‏ وإذا ما شعرنا بالجوع من جراء التعب والشقاوة، يشتري أهلنا لنا كعكة بالزعتر أو قليطة أو ‏عرنوس ذرة، مع هرم "بونجيس" أو مشروباً غازياً، وكيساً صغيراً من "الملبس على قضامة" أو ‏‏"النعومة" للتحلية، من الباعة أصحاب العربات أو البسطات المنتشرين في الخارج. هم بضعة ‏باعة، لكنهم تمركزوا في المكان وجعلوه لهم، ربما لأنهم يتمتعون بواسطة ما لدى بلدية بيروت ‏التي كانت ممتازة...‏

‏**‏



‏•كورنيش البحر:‏

الكورنيش البحري الممتد من عين المريسة، مروراً بالمنارة ومدينة الملاهي، وصولاً إلى ‏الروشة، المرتبط بذاكرة البيروتيين وتراث مدينتهم، كان يتحول أيام العيد إلى مدينة بحرية قائمة ‏بحد ذاتها، كأنه عالم خاص تخصص مساحته إلى فسحة لفسحة العيد بكل طقوسه الشعبية الملونة ‏بكل ألوان الفرح واللهو التي تحاكي الأطفال والأولاد، الذين يجدوا فيه ضالتهم ليقضوا أجمل ‏أوقات العيد...‏

فهذا المتنفس البحري، كان يضج بالحركة والنشاط دون توقف طيلة أيام العيد، على غرار أيام ‏الأحد.‏

‏*‏

‏•دواليب الهوا:‏

أول ما كان يشدنا بائع دواليب الهواء الملونة المثلثة الأضلع والمصنوعة من الورق اللميع ‏والمعلقة بعود من الخشب الرفيع، حيث تدور وتدور مع قليل من الرياح الهادئة، باعثة البهجة ‏في نفوسنا عندما نحصل على واحد منها ونحن نراقبها كيف تدور بشكل تلقائي وكأن ساحرٌ ‏يحركها.‏

‏**‏



‏•غزل البنات:‏

وكنا ننتظر بائع غزل البنات بدراجته الهوائية، واضعاً أمامه العدة الخاصة بصناعة الغزلة، ‏مرتدياً زياً مزركشاً يستهوي الصغار، منادياً: "شعر البنات.. سكر نبات"، أو أن يطلق موسيقى ‏معينة هي عرف بين صفوف الاطفال وحتى ذويهم. فما أن يقترب منا، حتى نتحلق حوله، ‏لنراقبه كيف يحول السكر إلى إلى شعيرات وخيوط زهرية بمذاقها الحلو المميز، منتظرين دورنا ‏حتى نحصل على حصتنا، إما داخل كيس من النايلون، أو على عود خشبي، فنمضي فرحين ‏متلذذين بهذه الحلوى اللطيفة...‏

‏**‏



‏•طائرات الورق:‏

أكثر ما كان يسرق إنتباهنا بدهشة كبيرة، هي طيارات الورق بأشكالها وألوانها المختلفة،التي ‏يطيرها الفتيان في السماء بواسطة خيطان، فنحلق بنظرنا إلى السماء مقاومين أشعة الشمس ‏لنمتع نظرنا بمشاهدتها وهي محلقة عالياً، محاولين اللحاق بها بعيوننا، رغم ما نتعرض له من ‏جراء قوة الشمس من "تفونس".‏

وكان الفتيان يتبارون فيما بينهم من بمقدوره أن يجعل طيارته تحلق أكثر من الآخر، وغالباً ما ‏كانت الخيطان "تتشركل"، فتقع المشاجرات فيما بينهم، مما يقتضي تدخل الأهل لإصلاح ذات ‏البين.‏

‏**‏

‏•الكارابيج والسحبة:‏

ثمة بائع متجول يحمل بيده سطلاً حديدياً وكيساً بداخله "قراطيس من البسكويت، وينادي: ‏‏"كاربيج.. كارابيج"، كان ممنوعاً علينا من قبل أهلنا أن نشتري منه، منعاً لتعرضنا للتسمم(!)‏

كان بداخل السطل "الناطف" وكان على الزبون الصغير أن يدفع للبائع خمسة قروش فيعطيه ‏‏"الزهر" (النرد)‏

ليرميه أرضاً، والرقم الذي يستقر عليه "الزهر" يكون له بعدده "قراطيس" معبأة بالناطف، كذلك ‏كان بحوذته أيضاً علبة كرتونية "السحبة" مقسمة إلى مربعات صغيرة مخرمة، مقابل "الفرنك" ‏يمكن للطفل أن يفتح إحدى مربعات الحظ، لكي يحصل على ما يخبى له في داخل المربع من ‏هدية، بالأغلب تكون خاتم من البلاستك، كذلك "السحبة" لم يكن مرغوباً أن نلعبها، خشية أن ‏تكون فخاً لنا في المستقبل للعب "القمار" (الميسر)، حسب معتقدات الأهل.‏

‏**‏



‏•بائع الفستق العبيد:‏

عندما تفوح رائحة الفحم المشتعل الممزوجة مع رائحة مع الفستق، هذا مؤشر لإقتراب بائع ‏الفستق السوداني من مكان تواجدنا على الكورنيش، أو نحن نقترب من مكان وضع بسطته، التي ‏هي عبارة عن قاعدة خشبية، يضع عليها وعاءاً حديدياً دائرياً من طبقتين ولها داخون صغير، ‏الطبقة السفلى لوضع الفحم، والعليا لعرض الفستق الساخن ذات الطعم اللذيذ والشهي، ويشك ‏حولها "قراطيس" مصنوعة من ورق مجلات قديمة يعبئها للزابئن.‏

وغالباً ما كنا نناديه "عم عبدو"، ربما لأن بشرته سمراء، وكان لطيفاً ومحباً ويساير الأطفال، ‏وكنا ننتظر ضحته حتى نشاهد أسنانه الشديدة البياض، لكي تغتي له أهزوجة: "عبدو عبيد أسنانو ‏بيض..." التي يتقبلها بكل رحابة صدر وإبتسامة، مع حبتين فستق زيادة في "القرطاس"...‏

‏**‏

هكذا كنا نعيش العيد وأجوائه، مما يدفعنا اليوم للتساؤل: ما الذي بقي من فرحة العيد في هذا ‏العصر الذي تباعدت فيه القلوب؟ بل ما هو الجديد الذي يجعل هذا اليوم متغيراً عن باقي أيام ‏السنة التي باتت رتيبة بروتينها الممل؟

‏ فقد باتت البسمة مزيفة والفرحة مصطنعة والمجاملة هي سيدة الموقف، إجتماعاتنا صارت كأنها ‏شيئاً مفروضاً ينبع من حس أداء الواجب فقط، فصارت تجتمع الأجسام ولكن القلوب متفرقة ‏ومتباعدة...‏

‏**‏

‏-إنتهى

‏*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

30 أيار 2020 13:10