زياد سامي عيتاني*
نستكمل الإبحار من خلال مخزون الذاكرة بأجواء وتقاليد العيد أيام زمان من خلف هذا الحصار الجزئي القصري، الذي فرضته علينا "كورونا" التي سرقت منا فرحته وألفته.
العيد كان فرحة تتكرر كل عام يستقبلها الجميع بشوق ولهفة، ففيها تصفوا النفوس وتتقارب في هذا اليوم الجميل، السعادة تكون فيه عارمة وحاضرة للصغير قبل الكبير.
ما بين زماننا الحاضر وزماننا القريب الفائت، طرأ الكثير في إستقبال فرحة العيد، فالكثير يظن أن العيد قد فقد بريقه في أيامنا هذه بعد أن تغيرت أحوال المجتمع وتبدلت بما أفرزته الحضارة المعاصرة من رفاهية التكنولوكيا الفاقدة للمشاعر الإنسانية!!!
**
فبعد الإنتهاء من الواجبات العائلية من تزاور ومعايدات ولمة العائلة أول يوم من العيد عند كبيرها، ينصرف الجميع إلى حياة اللهو التي كان نعد الدقائق للقيام بفعالياتها، والتي تخصص لها أماكن ومناطق محددة، تعج بالناس المحتفلين بالعيد وسط أجواء عارمة من البهجة والسرورف، سوف نتناول محطتين بارزتين منهما، هما: حديقة الصنائع والكورنيش البحري.
•حديقة الصنائع:
"جنينة الصنايع"، المسيجة بشجر الزعرور بحبيباتها الحمراء الصغيرة، وأشجار "البوانسيانا" التي تنبت أزهارها الحمراء وأشجار "الجكرندا" التي تنبت أزهارها البنفسجية، ثم تتساقط فارشة الرصيف بلونها الجميل ناثرة رائحتها العطرة في الأرجاء.
هذه الجنينة كانت محطة أساسية في برنامج أنشطة العيد، فلا بد أن يخصص لها يوماً، ننتظره بلهفة شديدة، وذلك لركوب الدراجة الهوائية، دون أن نكون نعلم في حينه أن الحديقة هي معلم بيروتي ذات طراز عثماني، إكتسبت تسميتها لقربها مما كان يعرف سابقاً بـ"مبنى الفنون الجميلة والصنائع"، الذي أسسه العثمانيون، ثم تحوّل، مع مرور الزمن، إلى كلية الحقوق التابعة للجامعة اللبنانية، ولاحقاً إلى مبنى المكتبة الوطنية، إضافك إلى مستشفى كانت ملحقة بالمعهد أيضاً، هي نفسها تحوّلت إلى مقرّ وزارة الداخلية.
**
•إستئجار الدراجة الهوائية:
فكنا ثاني أيام العيد، بعد تجميع العيديات، نتجه إلى محلة الصنائع، حيث أن المحطة التي لا بد منها قبل الدخول إلى "الجنينة" هي محل "العيتاني" لتأجير الدراجات، مقابل مدخلها، وكأن إستئجار الدراجة بمثابة بطاقة الدخول إلى الجنينة، إذ أن إمتلاك تلك الدراجة في ذلك الزمن، هو شبيه بمن يملك طائرة خاصة في زماننا(!)
المحل رغم صغره، فهو بمثابة معرض لجميع أنواع وأحجام الدراجات الهوائية التي تناسب كل الأعمار وترضي كل الأذواق، وتلبي مختلف الميزانيات، مركونة بشكل مزدحم في المحل، لا أحد سوى أبو محمد يعرف كيفية ترتيبها وتوزيعها. كنا نختار دراجة من الحجم الصغير تناسب أعمارنا، لها أربعة دواليب مخصصة للمبتدئين للحفاظ على توازننا.
**
الدوران بالبيسكلات حول البركة:
ما أن نحصل على دراجتنا،حتى ندخل مسرعين إلى الحديقة فرحين محتفلين بما تمكنا من الحصول عليه، فيجلس الأهل الذين إصطحبونا على مقعد خشبي لمراقبتنا، والتدخل السريع في حال تعرضنا لأي سوء، أو تشاجرنا مع غيرنا من الأطفال على أفضلية المرور، مستمتعين بطيورها وأشجارها المعمّرة، لكسر الوقت وهم ينتظرون إنتهاء الفترة الممنوحة لنا لإستخدام البيسيكلات قبل إعادة تسليمها، ولسان حالهم يقول: "دخلت مرة في جنينة/ أشم ريحة الزهور/ واسلي نفسي الحزينة/ واسمع نشيد الطيور".
فيما نحن نبدأ عملية الدوران بالبيسكلات في الجنينة حول البركة، المحاطة بشجيرات متوسطة، التي غالباً ما كانت فارغة من المياه، رغم وجود في وسطها السبيل الحميدي، الذي نقل من ساحة "عسور"، متمتعين بالركوب الموسمي للدراجة الهوائية، وكأننا ندور في حلبة "الفورميلا وان"، من شدة فرحنا وبهجتنا.
وإذا ما شعرنا بالجوع من جراء التعب والشقاوة، يشتري أهلنا لنا كعكة بالزعتر أو قليطة أو عرنوس ذرة، مع هرم "بونجيس" أو مشروباً غازياً، وكيساً صغيراً من "الملبس على قضامة" أو "النعومة" للتحلية، من الباعة أصحاب العربات أو البسطات المنتشرين في الخارج. هم بضعة باعة، لكنهم تمركزوا في المكان وجعلوه لهم، ربما لأنهم يتمتعون بواسطة ما لدى بلدية بيروت التي كانت ممتازة...
**
•كورنيش البحر:
الكورنيش البحري الممتد من عين المريسة، مروراً بالمنارة ومدينة الملاهي، وصولاً إلى الروشة، المرتبط بذاكرة البيروتيين وتراث مدينتهم، كان يتحول أيام العيد إلى مدينة بحرية قائمة بحد ذاتها، كأنه عالم خاص تخصص مساحته إلى فسحة لفسحة العيد بكل طقوسه الشعبية الملونة بكل ألوان الفرح واللهو التي تحاكي الأطفال والأولاد، الذين يجدوا فيه ضالتهم ليقضوا أجمل أوقات العيد...
فهذا المتنفس البحري، كان يضج بالحركة والنشاط دون توقف طيلة أيام العيد، على غرار أيام الأحد.
*
•دواليب الهوا:
أول ما كان يشدنا بائع دواليب الهواء الملونة المثلثة الأضلع والمصنوعة من الورق اللميع والمعلقة بعود من الخشب الرفيع، حيث تدور وتدور مع قليل من الرياح الهادئة، باعثة البهجة في نفوسنا عندما نحصل على واحد منها ونحن نراقبها كيف تدور بشكل تلقائي وكأن ساحرٌ يحركها.
**
•غزل البنات:
وكنا ننتظر بائع غزل البنات بدراجته الهوائية، واضعاً أمامه العدة الخاصة بصناعة الغزلة، مرتدياً زياً مزركشاً يستهوي الصغار، منادياً: "شعر البنات.. سكر نبات"، أو أن يطلق موسيقى معينة هي عرف بين صفوف الاطفال وحتى ذويهم. فما أن يقترب منا، حتى نتحلق حوله، لنراقبه كيف يحول السكر إلى إلى شعيرات وخيوط زهرية بمذاقها الحلو المميز، منتظرين دورنا حتى نحصل على حصتنا، إما داخل كيس من النايلون، أو على عود خشبي، فنمضي فرحين متلذذين بهذه الحلوى اللطيفة...
**
•طائرات الورق:
أكثر ما كان يسرق إنتباهنا بدهشة كبيرة، هي طيارات الورق بأشكالها وألوانها المختلفة،التي يطيرها الفتيان في السماء بواسطة خيطان، فنحلق بنظرنا إلى السماء مقاومين أشعة الشمس لنمتع نظرنا بمشاهدتها وهي محلقة عالياً، محاولين اللحاق بها بعيوننا، رغم ما نتعرض له من جراء قوة الشمس من "تفونس".
وكان الفتيان يتبارون فيما بينهم من بمقدوره أن يجعل طيارته تحلق أكثر من الآخر، وغالباً ما كانت الخيطان "تتشركل"، فتقع المشاجرات فيما بينهم، مما يقتضي تدخل الأهل لإصلاح ذات البين.
**
•الكارابيج والسحبة:
ثمة بائع متجول يحمل بيده سطلاً حديدياً وكيساً بداخله "قراطيس من البسكويت، وينادي: "كاربيج.. كارابيج"، كان ممنوعاً علينا من قبل أهلنا أن نشتري منه، منعاً لتعرضنا للتسمم(!)
كان بداخل السطل "الناطف" وكان على الزبون الصغير أن يدفع للبائع خمسة قروش فيعطيه "الزهر" (النرد)
ليرميه أرضاً، والرقم الذي يستقر عليه "الزهر" يكون له بعدده "قراطيس" معبأة بالناطف، كذلك كان بحوذته أيضاً علبة كرتونية "السحبة" مقسمة إلى مربعات صغيرة مخرمة، مقابل "الفرنك" يمكن للطفل أن يفتح إحدى مربعات الحظ، لكي يحصل على ما يخبى له في داخل المربع من هدية، بالأغلب تكون خاتم من البلاستك، كذلك "السحبة" لم يكن مرغوباً أن نلعبها، خشية أن تكون فخاً لنا في المستقبل للعب "القمار" (الميسر)، حسب معتقدات الأهل.
**
•بائع الفستق العبيد:
عندما تفوح رائحة الفحم المشتعل الممزوجة مع رائحة مع الفستق، هذا مؤشر لإقتراب بائع الفستق السوداني من مكان تواجدنا على الكورنيش، أو نحن نقترب من مكان وضع بسطته، التي هي عبارة عن قاعدة خشبية، يضع عليها وعاءاً حديدياً دائرياً من طبقتين ولها داخون صغير، الطبقة السفلى لوضع الفحم، والعليا لعرض الفستق الساخن ذات الطعم اللذيذ والشهي، ويشك حولها "قراطيس" مصنوعة من ورق مجلات قديمة يعبئها للزابئن.
وغالباً ما كنا نناديه "عم عبدو"، ربما لأن بشرته سمراء، وكان لطيفاً ومحباً ويساير الأطفال، وكنا ننتظر ضحته حتى نشاهد أسنانه الشديدة البياض، لكي تغتي له أهزوجة: "عبدو عبيد أسنانو بيض..." التي يتقبلها بكل رحابة صدر وإبتسامة، مع حبتين فستق زيادة في "القرطاس"...
**
هكذا كنا نعيش العيد وأجوائه، مما يدفعنا اليوم للتساؤل: ما الذي بقي من فرحة العيد في هذا العصر الذي تباعدت فيه القلوب؟ بل ما هو الجديد الذي يجعل هذا اليوم متغيراً عن باقي أيام السنة التي باتت رتيبة بروتينها الممل؟
فقد باتت البسمة مزيفة والفرحة مصطنعة والمجاملة هي سيدة الموقف، إجتماعاتنا صارت كأنها شيئاً مفروضاً ينبع من حس أداء الواجب فقط، فصارت تجتمع الأجسام ولكن القلوب متفرقة ومتباعدة...
**
-إنتهى
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.