أبطل المجلس الدستوري القانون الرقم 7 تاريخ 2020/7/3 الذي يتعلق بتحديد آلية التعيين في الفئة الأولى في الإدارات العامة وفي المراكز العليا بناء على الطعن المقدم من رئيس الجمهورية ميشال عون. وقد قبل المجلس مراجعة الطعن لورودها ضمن المهلة القانونية مستوفية جميع شروطها الشكلية وأبطله برمّته في الأساس لمخالفته الدستور. هذا الإبطال وإنْ وجد ما يبرره دستوريا، الا انه الغى امكان تعديله او سن قانون آخر بديل، ما اعتبره العضو السابق في المجلس الدستوري البروفسور انطوان مسرّه "مأسسة مقوننة لسلطة مطلقة وشرعنة للزبائنية وتعطيلاً للمؤسسات الناظمة للإدارة العامة". ماذا يقول مسرّه لـ"النهار"؟
يسأل مسرّه: "هل ولّى زمن مونتسكيو وكبار الحقوقيين الذين نظّروا لمبدأ الفصل بين السلطات للحدّ من سلطة أي هيئة على سلطة أخرى؟ وهل ولّى زمن الآباء المؤسسين الحقوقيين الذين أسهموا عبر التاريخ في تفاصيل المبدأ ومضمونه؟". ويرى ان "السلطة في لبنان اصبحت بعد اليوم مُطلقة مع تخمة حيثيات صادرة عن أعلى القمة، في حين أن مفهوم الحدود limite هو في جوهر فلسفة القانون وينبع منه حظر تجاوز حد السلطة abus de droit".
ويصف قرار المجلس الدستوري في 2020/7/22، حول الغاء القانون الرقم 2020/7 الصادر في الجريدة الرسمية، العدد 28 تاريخ 2020/7/3 بالتاريخي، لانه يطرح ملاحظات قد لا يُدرك خطورتها قانونيون بسبب التمادي في تعميم اللاقانون ومأسسة الزبائنية.
ويفند مسرّه هذه الملاحظات:
"1. سلطة مطلقة مقوننة: يتكرر في القرار رفض مبدأ الحدود limite أكثر من عشر مرات وبالعبارات الصريحة الاتية:
"انتقص من سلطة الوزير الدستورية (...) وأيضًا من سلطته في اتخاذ القرار".
"انتقص من سلطة مجلس الوزراء".
"تقليص دور الوزير المختص الى مجرد التنسيق".
"يستعيد حينها الوزير، وبقطع النظر عن عدم دستورية اللجنة، كامل صلاحياته وسلطته في اقتراح من يراه ويراهم أكثر كفاءة لملء الوظيفة الشاغرة، اذ ليس في الأمر مباراة تلزم بالتقيّد...".
"حيث ان سلطة الوزير (...) تُشكل في حقيقة الأمر ضمانة دستورية...".
"حيث ان تقييد الوزير المختص...".
"وبما أنه لا يصح تقييد سلطة مجلس الوزراء (...) وفرض شروط مقيّدة لممارستها...".
"ما تتخذه اللجنة من مقررات (...) يؤلف قيدًا لسلطة مجلس الوزراء (...) ويصبح محصورًا لزومًا بالأشخاص الذين تُسميهم اللجنة دون سواهم".
"وبما أن مضمون القانون الحالي يحدّ من سلطة مجلس الوزراء ويقيّدها...".
يتم الاستناد في القرار الى المادة 65 من الدستور، في حين أن هذه المادة بالذات تُحد من سلطة مجلس الوزراء والوزراء بموجب القانون:
المادة 65 - الفقرة 2: تعيين موظفي الدولة وصرفهم وقبول استقالاتهم وفق القانون.
القانون المطعون فيه هو من النصوص التي توجبها المادة 65 بالذات!
كل ما تعلمته في القانون الإداري في كلية الحقوق بفضل العلّامة Philippe Ardant، في السنوات 1959-1960، وفي مؤلفات رائدة حول "العمل الحكومي" actes de gouvernement وهي أعمال تنحصر في شؤون الأمن القومي والعمل الديبلوماسي يمتد اليوم في لبنان الى كل وزير في ممارسته سلطة مطلقة استنسابية وبلا حدود. كل قرار في لبنان بعد اليوم هو acte de gouvernement!
لا اطلاقية لأي سلطة في دولة الحق! حتى في القبائل، في أوضاع سابقة للقانون pré-droit، يتم اللجوء الى آليات تشاورية وتسلسلية. وحتى البابوية الكاثوليكية التي يتم توصيفها بمعصومة عن الخطأ infaillible يسبق مواقفها سينودس للتشاور والتقرير!
2. نقد المبادئ الدنيا في الإدارة العامة والرقابة التسلسلية: لا يذكر القرار أي مبدأ في التنظيم الإداري والرقابة التسلسلية في المجتمع اللبناني بالذات. أين مفاهيم ومعايير الرقابة ومضمونها، والرقابة التسلسلية، والتسلسل الهرمي، وتوزيع المهمات، وتحديد مواصفات كل موقع، والمسؤولية في الرقابة التسلسلية subsidiarité؟
كل هذه المفاهيم غائبة تمامًا في القرار مع تجاهل تام في مجمل الحيثيات. لماذا يوجد مجلس خدمة مدنية ومعهد وطني للإدارة وموظفون وتسلسل وظيفي...؟ كلهم بعد اليوم مرؤوسون (وفق التعبير العثماني القديم) تابعون لاطلاقية السلطة! وما معنى كفاءة وصلاحية compétence التي تُحددها القواميس بأنها "القدرة المعترف بها في قضية توفر الحق في التقرير". يتمتع كل وزير بعد اليوم بصلاحية غير مقيّدة وهو القاضي السامي في الحكم المبرم، في حين أن صلاحية أي وزير هي بالضرورة مُقيّدة، بمعنى أنها تُمارَس ضمن الحدود التي يرسمها القانون.
3. تسخيف المادة 65 من الدستور: يتم تسخيف هذه المادة التي تفرض أكثرية موصوفة majorité qualifiée بشأن 14 قضية أساسية. هدف هذه المادة تجنب طغيان أكثرية وطغيان أقلية abus de majorité / abus de minorité وليس تبريرًا لسلطة مطلقة. هذه المادة هي روعة في المخيلة الدستورية في سبيل الادارة الديموقراطية للتعددية الدينية والثقافية من منظور عالمي ومقارن في عالم اليوم (كتابنا: النظرية الحقوقية في الأنظمة البرلمانية التعددية، المكتبة الشرقية، 2017، 656 ص).
4. أمر مبرم للمجلس النيابي بعدم إعداد أي نص تشريعي آخر حتى معدلاً! يتحول سموّ الدستور suprématie de la Constitution في القرار الى سموّ مؤسسة المجلس الدستوري بالنسبة الى كل السلطات الأخرى، وتجاه المجلس النيابي بالذات! استنادًا الى تفسير مجتزأ لاجتهاد دستوري يتعلق حصرًا بعمل المجلس الدستوري، ولا يتعلق تحديدًا بالمجلس النيابي، يأمر القرار على المجلس النيابي، الذي هو السلطة التشريعية الأم، بعدم إعداد أي نص تشريعي آخر، بهذه العبارات الصارمة:
"حيث لا يمكن (كذا) للسلطة التشريعية أن تسن قانونًا جديدًا يحتوي بلباس آخر مضمون قانون أبطله المجلس..."
يذكر القرار هنا اجتهادًا فرنسيًا تاريخ 1989/7/8 ينحصر في القانون بالذات، ولا يتوجه بلهجة الزامية الى المجلس التشريعي الفرنسي!
تُشكل عبارة "لا يمكن": 1) استباقًا لعمل تشريعي هو من صلاحية السلطة التشريعية، 2) وموقفًا مسبقًا تجاه أي قانون آخر، 3) وموقفًا مسبقًا وسلبيًا واطلاقيًا حول أي "لباس مختلف"، في حين يتوجب على أي نص تشريعي في أسبابه الموجبة وفي دراسة الجدوى الأخذ بالاعتبار الأسباب والحالات والضرورات، 4) ومنعًا لأي تدبير في المستقبل مهما تغيرت الاوضاع يُحد من اطلاقية السلطة في التعيينات.
تتصف طبعًا كل قيمة valeur / norme بطابع مطلق كمبدأ، لكن يتوجب في التطبيق الأخذ بالاعتبار، مكانًا وزمانًا وأوضاعًا، تراتبية القيمة في سُلّم القيم، أي ما يُسمى غالبًا في القانون حالات الضرورة والاستثناء والأوضاع القاهرة... إن الجزم بعبارة "لا يمكن" تجاه المجلس النيابي تضفي اطلاقية على العدالة البشرية للمجلس الدستوري.
أما العودة الى سابقة للمجلس الدستوري في القرار الرقم 2001/5 فليس في هذا القرار تبرير لأي سلطة مطلقة، بخاصة أن الطاعنين سنة 2001 (حسين الحسيني، نايلة معوض، فارس ساسين...) يدافعون في الطعن عن المساواة، وحق الموظفين في الترقية، والضمانات الدستورية...! ورد في صلب القرار 2001/5 بالذات تأكيد على ما يأتي:
"بما أنه ليس ما يحول دون ان يقدم المشترع على تنظيم الوظيفة العامة، على ما فعل في القانون المطعون فيه بشأن المواصفات الواجب توافرها في الأشخاص المعينين من خارج الملاك أو نسبة عددهم الى مجموع الوظائف من فئتهم داخل الملاك..." (مجموعة قرارات المجلس الدستوري، 1994، 2014، الجزء 3، الجزء 1، ص 185-193).
ان عدم ذكر تفاصيل اجتهاد سنة 2001 هو اجتزاء لجوهره!
لا ذكر أيضًا في القرار للأسباب الموجبة للقانون المطعون فيه، ولا لمضمون الأعمال الإعدادية ولا لمحاضر مجلس النواب بهدف تحقيق فاعلية القانون effectivité du droit ومستلزمات المصلحة العامة. ولا ذكر لأي دراسة جدوى étude d’impact، كما تفرضه حديثًا الصياغات التشريعية، في سبيل هذه الفاعلية".
ويختم مسرّه بان "القرار هو بالتالي مأسسة مقوننة لسلطة مطلقة وشرعنة للزبائنية وتعطيلاً للمؤسسات الناظمة للإدارة العامة".
النهار
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.