29 تشرين الأول 2020 | 20:11

منوعات

الإنشاد الديني‎..‎‏ رسالة محبة وسلام تضيئ النفوس

الإنشاد الديني‎..‎‏ رسالة محبة وسلام تضيئ النفوس

زياد سامي عيتاني*


الإنشاد الديني رحلة فن روحي بدأ منذ عهد الرسول الكريم ومر بمراحل عديدة عملت على تطوره، حتى خرج من عباءته الإنشاد الصوفي والسلفي وغيرها من القوالب الإنشادية.

ويرتبط الإنشاد الديني إرتباطاً وثيقاً بالمناسبات الدينية، لا سيما بشهر رمضان المبارك وذكرى المولد النبوي الشريف وذكرى الإسراء والمعراج وليلة القدر المعظمة ورأس السنة الهجرية بأجوائها الدينية والروحانية التي تتجلى في تلك المناسبات، فتأسر الأرواح وتسلب العقول بعذوبتها وصفائها.

**

•جذور الإنشاد قرآنية:

يربط البعض جذور الإنشاد الديني بتلاوة القرآن، حيث يذكر البخاري في صحيحه حديثًا عن النبي يقول "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، هذا التغني الذي وصفه الإمام الغزالي بـ"الترنم وترديد الألحان"، وذلك في "إحياء علوم الدين".

وتؤكد كتب التراث بأن بدايته كانت مع بداية الأذان حيث كان بلال المؤذن يجود فيها كل يوم خمس مرات، ويرتلها ترتيلاً حسنًا بصوت جميل جذَّاب، ومن هنا جاءت فكرة الأصوات الندية في التغني بالأشعار الإسلامية، ثم تطور الأمر على أيدي المؤذنين في الشام ومصر والعراق وغيرها من البلدان، وأصبح له قوالب متعددة وطرائق شتى.

من الملاحظ أنه لا يبدو للإنشاد أثر كبير في المرحلة المكية؛ للظروف التي واجهتها الدعوة من تضييق مارسه المشركون، غير أن الهجرة إلى المدينة المنورة تحفظ لنا أحد أوائل نصوص الإنشاد حين استقبل المهاجرون والأنصار النبي بالنشيد الشهير:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع...

هكذا استقبل المسلمون الأوائل النبي المهاجر بهذه الكلمات، مصحوبة بضربات الدف، (رغم أن التاريخ لا يحفظ لنا اللحن الذي أدي به هذا النشيد؛ فاللحن الذي يؤدى به الآن وضعه الملحن الراحل رياض السنباطي)!

**

•الرومي والتبريزي وتطوير الإنشاد:

ظهر في القرن الثالث عشر رجلان سيغيران من الإنشاد الديني تغييراً كبيراً، سيدوم أثره حتى الآن، وهما: جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، اللذين التقيا بقونية.

كان نتيجة إلتقاء الرومي العالم والفقيه بالدرويش الجوال شمس الدين التبريزي أن إبتدعا ما سيعرف بعد ذلك بالطريقة "المولوية" وهي الطريقة التي أحدثت تغييراً كبيراً في فن الإنشاد الديني، والتي قدمت الإنشاد الصوفي كأحد أبرز أشكاله.

وينسب وضع أوائل الألحان الموسيقية للإنشاد إلى السلطان ولد بهاء الدين محمد ولد وهو الابن الأكبر لجلال الدين الرومي

كان لدخول الإنشاد الصوفي ساحة الإنشاد الديني أثر كبير في تطوير هذا الفن، ليقدم ضرباً مختلفاً من ضروب الإنشاد، لما يتميز به الشعر الصوفي من مميزات تفرقه عن غيره من أشعار المديح والابتهال.

بجانب الراقصين بعباءاتهم الشهيرة وقلنسواتهم الشامخة نحو السماء ينشد الراقصون أبياتًا كل بمفرده، على أنغام حزينة هي أنغام الناي وبعض الطبول والقيثارة، وعلى مقامات موسيقية هي المقامات التي عرفها الأتراك، والتي بعد تطورها نقلها المصريون.

**

•السلاجقة والعثمانيين يشجعون الإنشاد:

شجع سلاطين السلاجقة والعثمانيين الموسيقى الصوفية والسماع، بل لقد كان منهم من انتسب إلى بعض الطرق الصوفية، ومن هؤلاء السلطان السلجوقي علاء الدين قيقباد الأول الذي كان يذهب إلى جلال الدين الرومي في زاويته، وكان يدعوه هو ومريديه إلى قصره في قونية للاستماع إلى قصائد وموسيقى الصوفية.

ومن السلاطين الأتراك أيضا من كتب الأشعار الصوفية كالسلطان العثماني أحمد الأول، كما أولى السلطان سليم الثالث اهتماما كبيرا بالسماع.

**

•النابلسي يؤسسة المدرسة الدمشقية:

بعدها بثلاثة قرون، وتحديداً في القرن السابع عشر، كان الشيخ عبد الغني النابلسي يؤسس المدرسة الدمشقية في الإنشاد الديني، والتي بدأها بما يعرف بـ"أذان الجوقة" أي الأذان الجماعي. وفي هذا الآذان يلقي المؤذن جزءًا من الأذان، لتردده خلفه جوقة من المؤذنين، على أن يتغير المقام الذي يؤدى عليه الأذان من يوم لآخر.

وقدم النابلسي عدداً من فنون الإنشاد منها ما يعرف بالصمدية، والتواشيح المعروفة حتى الآن، وغيرها، معتمداً على مقامات متنوعة وآلات موسيقية متعددة.

**

•الحامولي يؤسس المدرسة المصرية:

حتى ذلك الوقت لم تكن المدرسة المصرية قد أدلت بدلوها في هذا المجال بما فيه الكفاية، وسيظل الأمر كذلك حتى القرن التاسع عشر، حين يسافر ذات يوم المطرب عبده الحامولي مع الخديو إلى تركيا ليعود بالمقامات التركية ويحاول تطبيقها في مصر، عندئذ تبدأ مدرسة جديدة في الإنشاد، ستحتل الصدارة لسنوات.

**

•إنتشار الإنشاد مطلع القرن العشرين:

وفي بدايات القرن العشرين أصبح للإنشاد الديني أهمية كبرى، حيث تصدى لهذا اللون من الغناء كبار المشايخ والمنشدين الذين كانوا يحيون الليالي الرمضانية  والمناسبات الدينية، محبي هذا الفن حوله.

أسماء كثيرة وأشكال متعددة

تطورت قوالب فن الإنشاد الديني وأصبح له أشكال متعددة وأسماء كثيرة تمجد الدين الإسلامي وتدعو لوحدة المسلمين، وتمدح رسول الله، ففي مصر برز الشيخ طه الفشني والشيخ النقشبندي. أما في سوريا فيعتبر المنشد الراحل توفيق المنجد أهم من ظهر في هذا المجال وهو من منشدي دمشق، مع وجود أسماء كبيرة مثل المنشد فؤاد الخنطوماني والمنشد صبري مدلل في حلب وكذلك المنشد منذر السرميني أبو الجود والمنشد محمد أبو راتب. ومن العراق الشيخ حمزة الزغير وياسين الرميثي وعبد الرضا الرادود وجاسم الطويرجاوي ومهدي الأموي وعزيز الكلكاوي.

**

•أشكال ومقامات الإنشاد:

وعلى جانب آخر كان يتخلل الإنشاد الديني كثير من الحوارات الغنائية بين "المنشد الأصلي" ومجموعة المنشدين من خلفه، وكان المنشد يتوسط الحلقة، ويلتف من حوله مجموعة "السنيدة" بعد ذلك، وكان المنشد يختار مقطعاً من القصيدة أو جملة يجعلها محوراً تدور حولها كل الردود من "السنيدة"، فيرددونها وراءه ثم يعودون إليها بعد المنشد.

وكانت الوصلة الأولى يختار لها الشيخ المنشد مقاماً موسيقيا معينا مثل "الراست" مثلاً أو البياتي، أو الحجاز، وغيرها، ثم يبدأ المنشد الوصلة بإبراز مواهبه في الأداء، وبراعته في التنقل بين المقام الأصلي ومشتقاته، وقدرته على إبراز الحليات والزخارف اللحنية، ثم يردد المنشدون بعد ذلك المقطع أو الجملة المحورية التي بدأ بها القصيدة.

ثم تأتي الوصلة الثانية فيختار لها مقامًا موسيقيًّا آخر حتى ينوع في المقامات، وحتى لا يمل السامعون ويفعل ما فعله في الوصلة الأولى.

**

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.









يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

29 تشرين الأول 2020 20:11