كتب كمال دمج:
في مشهد يكاد يكون أخطر، وربما هو كذلك، من مرحلة ما قبل العام ٢٠٠٥ ، يكمل الرئيس سعد الحريري بخطواتٍ ثابتة وحكيمة، درب الرئيس الشهيد رفيق الحريري في مواجهة المتربصين بلبنان. والمفارقة اليوم، أنَّ سعد الحريري وحيداً يواجه بصلابة، التسويات الدولية التي تكرس لبنان قنبلة نووية يتم التفاوض على إدارتها.
هذا الدرب كان قد بدأه الشهيد رفيق الحريري باللحم الحي والعمل الجاد قبل اغتياله، وببركة روحه فيما بعد من خلال ثورة الأرز، وكان النتاج طرد الإحتلال السوري من لبنان. أمَّا اليوم، فنحن نتعامل مع احتلالٍ يقوده مكوِّنٌ "لبناني" بسلاحٍ متطورٍ خارجٍ عن سيادة الدولة وممولٍ من دولة أجنبية خدمةً لتطلعاتها وتأميناً لمصالحها. ولا يخفى على أحد أنَّ التعطيل الممنهج للمؤسسات الدستورية اللبنانية منذ سنوات حتى اليوم، يقوده بجميع أشكاله، محوراً واحداً أودى بلبنان إلى العزلة شبه التامة وإلى حرمانه من أيِّ مساندة لصَدِّ سقوط الكيان.
والمؤسف فعلاً، أنَّ وبالرغم من كثرة الأصوات المحلية والدولية المعادية لسياسات إيران في لبنان والمنطقة، إلاَّ أنَّ في حضرة الخوف على المصير والمصالح الشخصية اعتادوا وضع لبنان جانباً والتفاوض على المغانم، إلاَّ أنَّها اليوم معدومة، فيتقاسمون الرُّكام. وهكذا، بعد انفجار مرفأ بيروت تهافتَ الجميع للململة الجراح، وكانتْ أبرز المبادرات وأكثرها حفاظاً على السيادة اللبنانية ومحور إجماعٍ لدى الأقطاب اللبنانية هي المبادرة الفرنسية القائمة على المساعدات تزامناً مع إصلاحات أساسية تجريها حكومة مستقلة وفاعلة، وهذا ما على أساسه قَبِلَ الرئيس الحريري تكليفه مهمة التشكيل.
وبِحُكم الإحتلال الممنهج عليه، يُشكل لبنان ورقة تفاوض أساسية بيد النظام الإيراني، يطرحها على طاولة المقامرة بينه وبين الإدارات الأميركية المتعاقبة وفقاً لمقتضيات كل مرحلة، كما أنَّه هدية دسمة في حال تنازل أصحاب الأسهم فيه عن بعض ما لهم، تحقيقاً لغايات إقليمية ودولية أهمّ. وفي ظلّ الشروط التعجيزية والتَّعَنُّت الحاصل بين طرفي الإتفاق النووي الأساسيين، تَلعَبُ فرنسا دور الوسيط لتقريب وجهات النظر، وبعد محاولات عدّة واستياء فرنسي من تصلُّب الموقف الإيراني بخصوص المفاوضات على الإتفاق النووي، وأيضاً في ما خص الملف اللبناني، جاءتها الصاعقة الإيرانية الكبرى على لسان الأمين العام لحزب الله بنصيحة "أخوية" بأن الحمولة الضخمة بحاجة لأكتاف عريضة على شاكلة حكومة سياسية لتحملها، ناسفاً بذلك مبادئ المبادرة الفرنسية وإحدى القواعد الأساسية التي كُلِّفَ على أساسها الرئيس سعد الحريري. ولدعم طرحه المستجد بمناعة قوية، كان لا بد له من التهديد بحرب أهلية، حدد مقوماتها وطريقة إجرائها وأدواتها، ووعد بإسقاط أي حكومة مستقلة في الشارع، بأقصى حد بعد شهرين على تشكيلها، وبدون أدنى شك، رئاسة الجمهورية بشخص متوليها، رئيساً فعلياً كان أم رئيس ظل، هي الإبن البار لسماحته ولا وجود للـ "كلا" في قاموس التخابر بينهما.
وحفاظاً على ماء الوجه، ولعدم فقدان الموقع الإستراتيجي التاريخي لفرنسا في لبنان، وللتأمين على أدنى مقومات مبادرتها، قدَّم "الإيليزيه" الدولة اللبنانية "كبش فداء" لإيران أولاً، ولحزب الله ثانياً، بطريقة غير مباشرة عبر عدم التعليق على ما جاء في خطاب "مرشد الجمهورية نحو الهلاك"، على غير عادة، بحيث كان الرئيس ماكرون يؤنّب المسؤولين اللبنانيين وخاصة حزب الله وجبران باسيل، على أدائهم وتعاطيهم مع التطورات في البلاد، مع الحفاظ على "خط الرجعة" مع الرئيس الحريري في حال بقي مُصرّاً، كما هو واضح، على مواقفه، وخصوصاً بعد أن صدرتْ معلومات عن تحرك كبير لجامعة الدول العربية وللإتحاد الأوروبي باتجاه، فيه دعم كبير لمبادئ المبادرة الفرنسية، وهذا ما عكسته حركة السفراء في بيروت، بحيث رصدت اجتماعات هامة بين السفير السعودي وسفراء عدد من الدول، وأهمهم السفيرة الفرنسية والسفيرة الأميركية والسفير الكويتي.
ولم يقف الأمر عند الموقف الفرنسي، فإنَّ أطراف داخلية لبنانية داعمة للمبادرة الفرنسية سارعتْ فور إصدار "مقترح فرمان" حكومة سياسية، إلى حجز مواقع لها فيها تحت مسمى "الهواجز"، ومنهم من خفَتَ صوتَه تجاه حزب الله تأميناً لغاياتٍ يتطلع إليها في إستحقاقات باتت شبه قريبة، فربطوا النزاع وشَدّوا الأحزمة لاستكمال اللّعب على الحبلين بدقة ورشاقة لتفادي السقوط القاتل.
وهكذا، لم يعد لحكومة الإختصاصيين المستقلين من مناصرين سوى الرئيس المكلف بتشكيلها، بحيث يتطلّع من خلالها للإنفتاح على محيطه العربي والدولي، فقد بات سعد الحريري المتمسك الوحيد بسلطة إجرائية مستقلة ذات سيادة على قراراتها وحريصة على المصلحة الوطنية، مواجهاً من هم في صدد الدفاع عن مواقعهم ومغانمهم فقط لا غير. وبصلابته هذه يقود لبنان نحو تكريس النصوص والآليات الدستورية وكف يد الممسكين بالقرار حسب مآربهم الخارجية، بطريقة سلمية وحضارية بعيداً عن المواجهة بالنار، ويدفع بعض الأطراف الخارجية إلى إعادة النظر فيما كانوا بدأوه من تخلٍ عن لبنان، وهذا ما سيتجلى في الأيام القليلة المقبلة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.