زياد سامي عيتاني*
شهر رمضان المبارك ينتظره المسلمون من عام إلى عام، حتى إذا ما جاء، إحتفلوا به فرحين صانعين له روحاً وأجواءاً خاصة، لا يمكن الإحساس بروحانياتها وتجلياتها في غيره من الشهور...
وسط تلك الأجواء، لا يكتمل المشهد الرمضاني من دون أن تصدح الإذاعات والمحطات التلفزيونية بالأغاني المرحبة والمهللة بقدوم شهر الصيام، التي رغم أن بعضها يعود إلى أكثر من ستين عاماً، فإنها تبقى بإيقاعاتها وترانيمها ونغماتها في الشوارع والبيوت تعبر عن بهجة وفرحة رمضان، حيث أنه قبل حلول شهر الخير ، تبدأ المحطات التلفزيونية ببث تلك الأغاني الرمضانية التراثية تهيئة وإستعداداً وإحتفالاً بقدومه المرتقب والمنتظر، فتطرب النفوس بسماع: "رمضان جانا"، "وحوي يا وحوي"، "مرحب شهر الصوم"، "أهو جه يا ولاد"، وسواها من الأغاني، التي صارت جميعها مرتبطة بهويتنا وثقافتنا وذاكرتنا الرمضانية، وجزءاً لا يتجزأ من روحه ونفحاته وطقوسه، ليفوق عدد هذه الأغاني عدد أيام الشهر الفضيل...
فأغاني رمضان تعتبر أشهر ما قُدم في التاريخ الغنائي خلال سنوات زمن الفن الجميل في مصر، إذ عرف المصريون الأغنية الرمضانية مع عهد الدولة الفاطمية، وعندما حكم المماليك مصر، كان الغناء فى المناسبات الدينية على رأس ما ورثوه من مظاهر وعادات، حتى تحول شهر رمضان فى عهد المماليك إلى شهر عبادة وطرب.
**
•أربعة أقسام لأغاني رمضان:
وعام 1907 كانت أول أغنية رمضانية تحقق شهرة للمطربة عزيزة حلمي بعنوان "وحوي يا وحوي"، وتوالت الأغنيات، وتطورت وازدهرت مع نشأة الإذاعة المصرية عام 1934، التي اهتمت بتقديم الأغنية الرمضانية، التى يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام، الأول خاص بأغنيات الرؤية مثل " وحوي يا وحوي، ابتهالات رمضان، أهه جه يا ولاد" لأحمد عبد القادر، محمد عبد المطلب، عبد العزيز محمود والنقشبندى، هيام يونس، الثلاثي المرح". والثاني يتضمن أغنيات عن مظاهر الشهر الكريم ومنها " شوفوا رمضان، على نور الفوانيس، المسحراتي، سبحة رمضان لولى و مرجان ..حالو يا حالو" لـ"هدى سلطان، ومحمد فوزي.
والقسم الثالث أغنيات في فضائل رمضان مثل " شهر الصيام، هلت ليالي حلوة وهنيه، سبحة رمضان" لـ " نجاة، وفريد الأطرش، والثلاثي المرح" .
والقسم الرابع الأغنيات الخاصة بوداع الشهر منها" والله لسه بدري يا شهر الصيام، وداع رمضان، يا بركة رمضان" لشريفة فاضل، كارم محمود، محمد رشدي.
وسوف نتناول في هذا التقرير أشهر أغنيتين على الإطلاق في إستقبال رمضان:
**
•"وحوي" الأقدم بنكهة فرعونية:
أغنية "وحوي يا وحوي" تعتبر الأشهر والأقدم في تاريخ أغاني رمضان، وهي الأغنية التي تسبق حلول الشهر وتستقبله وتواكب أيامه ولياليه، ويرددها الصغار قبل الكبار...
وقد قُدِّمت أغنية "وحوي يا وحوي" لأول مرة سنة 1907 م بكلمات محمد حلمي المانسترلي وألحان وغناء أحمد عبدالقادر، ثم أعيد غناءها مرة أخرى بكلمات فتحي قورة وألحان أحمد صبرى وغناء هيام يونس في فيلم "قلبي على ولدي" إنتاج سنة 1953، ليتم غناءها للمرة الثالثة والأخيرة سنة 2009 بكلمات نبيل خلف وألحان وليد سعد وغناء محمد منير...
إن عمر كلمات الأغنية هي أقدم من شهر رمضان نفسه!!!
فقد تمر عليك كلمات الأغنية مرور الكرام، إلا أنك عندما تتأملها تضبط نفسك متسائلاً عن معنى كلمة «وحوي يا وحوي»، وتنتابك المفاجأة عندما تعلم أن مطلع هذه الأغنية يعود للعصر الفرعوني.
"وحوي يا وحوي إيوحا"... تعود معاني هذه الجملة إلى العصر الفرعوني من خلال "واح وي إيوح" وكانت الجملة تعني الترحيب بالملكة الفرعونية (إياح حتب) الملكة المصرية القديمة في نهاية الأسرة السابعة عشرة، عندما خرج المصريون في استقبال الملكة إياح حاملين المشاعل والمصابيح يتغنون ب«وحوي يا وحوي إياحه» ومعناها «مرحباً يا قمر» تقديراً للتضحيات الكبيرة للملكة إياح التي قدمتها فداءً للوطن.
وفي هذا الإطار، يشير أثريون إلى أن المصريين القدماء كانوا يخرجون للترحيب بالقمر مطلع كل شهر، وكانوا يغنون "وحوي يا وحوي".
**
•مغنيها يتنازل عن "أهلاً رمضان":
عندما فتحت الإذاعة أبوابها عام 1934، دخلها شاب صغير من محافظة الشرقية بنظاراته المُدوّرة وحيائه الريفي طالبا أن يكون جزءا منها، ليصير الملحن والمغني "أحمد عبد القادر" من أوائل من انضموا إلى الإذاعة المصرية في سنواتها الأولى.
حينها، كان يتم تخصيص خمس عشرة دقيقة لكل ملحن يختار فيها أغنيات ثلاث للبث. وقبيل مجيء رمضان في أحد أعوام منتصف الثلاثينيات، تقدم عبد القادر بثلاث أغنيات كان منها "وحوي يا وحوي" و"رمضان جانا"، رفض المسؤولون أن يقوم بغنائها جميعا، فاكتفى بـ "وحوي يا وحوي" وصارت "رمضان جانا" من نصيب محمد عبد المطلب.
**
•"رمضان جانا" تسبق بيان المفتي:
إقترنت سمفونية "رمضان جانا" لسلطان الطرب الفنان الكبير محمد عبد المطلب بقدوم شهر رمضان من كل عام، والتي قادته الصدفة لغنائها، حتى صارت بمرور الأعوام أهم من بيان المفتي في الإعلان عن قدوم شهر رمضان.
تمخضت وإنسابت "رمضان جانا" من إمتزاج عبقريتين معاً: عبقرية اللحن الأخّاذ الذي تشد بدايته إليه الأذن شداً لصاحبه "محمود الشريف"، والعبقرية الثانية هي صوت محمد عبد المطلب الذي تتركز فيه كل جماليات الغناء الشعبي بأسلوبه المتميز، حتى إن عميد الأدب العربي طه حسين قد سمّاه "القاعدة المصرية للأغنية الشعبية".
الفنان أحمد عبد القادر هو الأب الروحي لرائعة "رمضان جانا"، إذ هو من تنازل عنها لعبد المطلب، بعدما طُلب منه أن يغنيها، عقب الفشل الذريع الذي وقعت به عندما غناها فناناً مغموراً(!)، إذ أن الفشل كان مصير أغنية "رمضان جانا" حين ظهرت لأول مرة على الإطلاق بصوت المطرب المغمور محمد شوقي وألحان سيد مصطفى يوم الخميس 2 رمضان عام 1362 هجري الموافق 2 سبتمبر - أيلول عام 1943 م.
هذا ما دفع الشاعر حسين طنطاوي للجوء إلى أحمد عبدالقادر، الذي كان يعمل في الإذاعة المصرية كما أشرنا، عارضاً عليه أن يغنيها بصوته، علّ الأغنية تأخذ نصيبها من النجاح. وبما أن الإذاعة في حينه كانت ترفض أن يقوم مطرب واحد بغناء أغنية عن نفس الموضوع، تنازل عنها عبد القادر لصالح المغني محمد عبدالمطلب، الذي حلقت بصوته وأسلوبه إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه أغنية من نجاح على الإطلاق، لدرجة أنها ما تزال حتى يومنا هذا وإلى أن يقضي ألله أمراً كان مفعولاً "السلام الوطني" (النشيد الوطني) للشهر الكريم.
ربما لم يكن عبدالمطلب ليقبل غناء “رمضان جانا” لولا الظروف التي أحاطت به، حيث كان توقيت الحرب العالمية الثانية سبباً في حالة عامة من الكساد، لذلك إضطرته حاجته إلى المال للقبول بغنائها، خصوصاً وأن معظم "الكازينوهات" قد أقفلت، ولم يعد هناك مجال رزق للفنانين سوى الإذاعة المصرية، فيأتون إليها ليختاروا كلمات المؤلفين، وبما أن "أغنية رمضان جانا" بقيت الوحيدة التى لم يخترها أي فنان، فأعجب بها عبد المطلب، وإختارها وسجلها في نفس اليوم لإحتياجه للستة جنيهات، علماً أن تسجيلها كلف عشرين جنيهاً.
كذلك، فإن تصوير الأغنية تلفزيونياً شكل عاملاً مكملاً لنجاحها الباهر وإنتشارها الواسع، وتحولها إلى "أيقونة" سمعية ومرئية لشهر رمضان.
فقد صورت الأغنية مرتين، مرة في الستينيات بالأبيض والأسود، حيث إرتدى عبد المطلب جلباب الفلاح، وخلفه فتيات يرتدين ملابس الريفيات، ويغنين بصحبة الفوانيس.
ومع نجاح الأغنية تقرر تصويرها مرة أخرى في الثمانينيات بالألوان وبمشاهد خارجية في الشارع المصري.
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.