طعام رمضان (٧):
زياد سامي عيتاني*
الأردنيون أبدعوا وتفننوا كثيراً في الطبخ حتى عرفوا بأكلاتهم المميزة في سائر أقطار الدنيا وخاصة سيد الأطباق الأردنية "المنسف".
إعداد وجبة "المنسف" الأردنية ليس واجباً فقط كإعداد باقي الوجبات للعائلة أو للضيوف، بل "هو أيضا طقس حميم وممتع للغاية".
و"المنسف"، ثريد اللّحم، طبخ عربي أساسه الكبسه وبيتميز عنها باستخدام اللبن الخاثر.
يعود تاريخ "المنسف" الأردني بحسب الباحثين إلى عهد الملك ميشع المؤابي عام 147 قبل الميلاد، مؤسس مدينة الكرك والموحد كما جاء في كتب التاريخ، لأنه وحّد مملكة ديبول مع مملكة مؤاب"، و"ميشع أمر أن تطهو ملكة مؤاب بكاملها اللحم باللبن، ومن لا يأكل اللبن اعتُبر مع الأعداء وليس مع دولته".
على إمتداد العقود الماضية تمكن "المنسف" من الإحتفاظ ببريقه كوجبة لا يمكن مقاومتها بالنسبة لغالبية الأردنيين. وفي شهر رمضان المبارك، يتربع "المنسف" على عرش مائدة المأكولات الأردنية، بحيث أضحى رفيقهم طيلة الشهر الكريم، فضلاً عن أنه طبق المناسبات، وملازماً دائماً لكل مظاهر الكرم والعطاء.
**
•التسمية:
بعدما تعرّفت العرب على اللّبن الخاثر أضيف للكبسه وصار اسمها منسف، من فعل النسف ربما، بمعنى تحويل مجلس الرجال إلى جلسة منسوفة بسبب إضطجاع الجميع للهضم بعد ملئ البطن. لكن بقاموس مختار الصحيح نقرأ: "نسف الطعام نفضه والمِنْسَفُ بالكسر ما يُنسف به الطعام وهو شيء منصوب الصَّدر أَعلاه مُرتفع و النَّسَافَةُ بالضم ما سقط منه". وفي معجم تاج العروس نقرأ: "أن الإناء المنسوف هو الإناء الفائض".
وهذا معناه إن المنسف هو الطبق المنسوف بالطعام الممتلئ.
**
•الطبق الوطني الأردني:
"المنسف" هو الطبق الوطني الأردني، والحقيقة أن ثقافة "المنسف" إن جاز لنا التعبير ترتبط إرتباطاً وثيقاً بجغرافيا الجنوب الأردني ويعكس حالة البداوة بالنظر إلى مدخلاته والعناصر المكونة له، ولكن الغريب في الأمر أن هذه الثقافة تحولت إلى ثقافة سائدة في جميع أرجاء الأردن حتى شماله الغني بالثروات الزراعية، عبوراً بعمان وضواحيها التي تجمع خليطاً ديموغرافياً من فلاحين وحضر.
و"المنسف" وبرغم أنه نتاج للضرورات البدوية فإنه يعبر عن حالة كرم إستثنائية في عرف الأردنيين بسبب كلفته بالمقارنة مع المأكولات الأخرى.
ولا يمكن القول بأن "المنسف" بقي رهينة للتقليد القديم الذي يعتمد على اللحم واللبن، ولكنه مر بتحسينات شاركت فيها جميع المطابخ ليخرج بشكله النهائي ويرتبط إسمه بشكل وثيق في الإردن، لدرجة أنه تجاوز حدود الجغرافيا الإردنية ليحط في جنوب العراق وشمال السعودية وبعض المطاعم في أمريكا وكندا واستراليا، لكن اسمه بقي مقترناً بالأردن وملازماً له.
**
•الرجال يشاركون في إعداد "المنسف":
لا تقتصر صناعة "المنسف" وإعداده بحرفية عالية على النساء فقط، فلا بد للرجال في الأردن أن يتعلموا طبخ هذا الطبق، حيث يجتمعون في المناسبات الكبرى وولائم الأفراح وفي الأتراح وحتى في حُمى الانتخابات النيابية لإعداد تلك الوجبة، خصوصا إذا تطلب ذلك طبخ كميات كبيرة وبقدور واسعة جدا لا تقدر النساء على حملها.
فمن المميزات الأخرى ل "المنسف" أنه "طبخة" يتصرف فيها الرجال الذين يفضلون طهيه بأنفسهم، فهو يجرد المرأة من سلطتها ويلغي فكرة كونها ملكة المطبخ.
وفيما يشكل "المنسف" حالة كرم إستثنائية للمضيفين بالنسبة للبعض، فإنه يشكل للبعض الآخر خياراً لا مفر منه في الولائم والدعوات الرمضانية، لأنه لا يقبل "شريكاً" بحيث يغني تقديمه للضيوف عن تقديم أي صنف آخر كما هو الحال بالنسبة للمأكولات الآخرى.
**
•أسرار الجودة والطعم:
ينقع الجميد لساعتين أو ثلاث، ثم يتم تذويبه بالماء باستخدام الأيدي في عملية تعرف باسم "المريس"، وللوصول إلى جودة طبق المنسف البلدي، يجب أن يكون اللحم لخروف أو جدي صغير، وأن يطبخ اللحم باللبن البلدي المعد من حليب النعاج بعد ترويبه وخضه(ينقع جميد اللبن لساعتين أو ثلاث، ثم يتم تذويبه بالماء باستخدام الأيدي في عملية تعرف باسم "المريس")، بعدها يوضع اللبن فوق اللحم في القدر مباشرة ليغلي معه ويتداخل فيه، بينما يوضع القمح المجروش أو الأرز في إناء ويسكب فوقه ماء مغلي مع قليل من الملح ثم يوضع على النار مع التحريك المستمر، ثم تخفف النار تحته وتركه عشرين دقيقة".
ولتجهيز المنسف يتم فرش خبز "الشراك" في سدر كبير ويوضع القمح المجروش أو الأرز فوقه، ثم تضاف قطع اللحم فوقه، ويوضع الرأس في المنتصف، ثم توضع قطع اللحم حوله ويغطى بقطعة "شراك" كاملة قبل تقديمه".
**
•طقوس المنسف:
و "المنسف" له طقوس تتمثل في طريقة تناوله التي تحمل دلالات إجتماعية هامة من خلال المشاركة و"التحلق" حول "السدر" وتقطيع اللحم للضيوف وتقديمه لهم كناية عن الإحترام والتبجيل.
ويتباهى المضيف بكثرة اللحم على سدور "المنسف"، وهو دلالة على كرمه أو ثرائه.
وكان من عادات تناول "المنسف" أن يتم تناوله باليد اليمنى بدون ملعقة، مع وضع اليد اليسرى خلف الظهر، وأنّ المضيف لا يأكل مع المعازيم الضيوف بل يظل واقفاً يقوم على خدمة الجميع وحثهم على الاستمرار بالأكل.
ومن العادات الآخرى التي كأنت سائدة أنه عندما تأتي مجموعة من الضيوف إلى أحدى المضافات أو الدواوين ومعهم ذبيحة، يتم عمل منسف للضيوف من لحم الذبيحة التي قدمها أحد الضيوف.
وكان الناس قديما يضعون "المنسف" في "باطية" توضع على الأرض فوق الحصير، و"الباطية" عبارة عن وعاء مجوف كبير يصنع من الخشب.
وأصبح "المنسف" فيما بعد يقدم في سدور مصنوعة من النحاس وبعدها من الألمنيوم، ويتم تزيين وجه "المنسف" برش حبات الصنوبر واللوز المقلي بالسمن البلدي، مع إضافة بعض مفروم البقدونس، ثم يصب اللبن الرائب المطبوخ بمرق اللحم فوق الأرز.
**
*باحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.