كتب خالد صالح (*):
سبعٌ وعشرون دقيقة فقط كانت كافية لدولة الرئيس سعد الحريري كي يُسقط عن العهد وأزلامه آخر أوراق التوت التي يتوارون خلفها، سبعٌ وعشرون دقيقة من الفن النبيل والمتواصل قدمت لهذا العهد درسًا في الوطنية اولًا وفي السياسة ثانيًا وفي الصدق والالتزام ثالثًا وأخيرًا ..
لم يعد خافيًا على أحد أن الأزمة ليست أزمة نظام بل أزمة "أخلاقية" في المقام الأول، بثّ هذا العهد روائحها في أرجاء لبنان طولا وعرضا، ولعل ما أظهره فريق العهد وتياره على مدى عقد ونصف من أنانية في التعاطي وتقديم المحسوبيات الشخصية على الأولويات الوطنية أرخت بظلالها على البلاد والعباد، وتسبّبت في وصول لبنان إلى مرحلة من الانهيار تجاوزت كل المعايير وكل التوقعات ..
وقف سعد الحريري على منبر الأونيسكو ليلجم "أفواه الكذب" و "أبواق الفتنة" من دون هوادة، إذ كيف له أن يُهادن وهو يرى بأم العين أي مآلٍ حطت به رحال الوطن، الوطن الذي يحمل إرث محبته من قامة وطنية وعربية ودولية شاهقة قامة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كيف له أن يساوم على بقائه وديمومته وآخر الآمال باستعادة عافيته، وقف ليجابه الرؤوس الحامية والممتلئة شحنًا طائفيا بغيضًا، ومحاولات مستمرة لهتك الدستور والمواثيق من دون رفة جفن ..
"لن أشكل حكومة كما يريدها فريق فخامة الرئيس، ولا كما يريدها اي فريق سياسي بعينه, لن اشكل الحكومة إلا كما يريدها وقف الانهيار ومنع الارتطام الكبير الذي يتهدد اللبنانيين في أكلهم وصحتهم وحياتهم ودولتهم"، رسالة واضحة لكل من تسوّل له نفسه اللعب بمصير الناس والوطن، وسدٌ منيع أمام أطماع البعض الذين يستسهلون وضع أصابعهم في آذانهم كي لا يسمعوا أوجاع اللبنانيين ..
لم يكن سعد الحريري في الأونيسكو إلا "زعامة" حقيقية ولدت من رحم أكثر من معاناة، معاناة الاغتيال الزلزال، ومعاناة مشاهدة تدمير العدو لبلده، ومعاناة ظلم ذوي القربى، ومعاناة محاولات إقصائه وشطبه من المشهد السياسي، ومعاناة الرهان الدائم على حبه وعشقه الفريدين للوطن في ممارسة الابتزاز الرخيص والدنيء، وأخيرا معاناة الشهور الماضية مع الاستخفاف بالمقام والشخص والمكانة ..
هذه "الزعامة" التي تكرّست اليوم من دون منازع، الزعامة التي وضعت "رئاسة الحكومة" فعلا وقولاً في الخانة نفسها التي تتواجد بها "رئاسة الجمهورية"، فإن كانت الرئاسة الأولى ارتضت أن تهب دورها "الحكم" لمشاريع وأحلام "الصهر المدلل"، فإن رئاسة الحكومة ستظل بمأمن في كنف زعامتها وبمنأى عن أي استغلال وضيع من هنا أو مساومة رخيصة من هناك ..
سعد الحريري اللبناني، اللبناني، اللبناني، وليس المسلم وليس السني وليس المناطقي، سعد الحريري الوطني بامتياز وتمايز يعيد للمنطق السياسي استقامته بعد اعوجاج فرضته ظروف الحرص على البلاد، ويضع حدًا للتطاول المستمر الذي مارسته "جوقة القصر" على مدى أربع سنوات ونيف، مؤكدًا أن لبنان العيش المشترك لكل أبنائه تحت ظلال الطائف والعيش المشترك، بلد الرسالة والنموذج الراقي وهمزة الوصل بين الشرق والغرب ..
ليس سعد الحريري من تُوجّه له الاتهامات بالتعدّي على حقوق المسيحيين وبهذا إشادة الحبر الأعظم بأن هذا الرجل هو ضمانة المناصفة في لبنان، وليس سعد الحريري الذي يتطاول على الميثاقية وهو راعيها الاول، بينما من يستل راية الميثاقية يستخدمها حين تناسب رؤاه ويهملها عند انتفاء الحاجة إليها ..
سبع وعشرون دقيقة فقط هبّت فيها رياح الحقيقة لتزيل الكثير من الأصباغ البالية والأكاذيب الرخيصة، ولامجال على الاطلاق بعدئذ إلا للسير على خطى الدستور والمؤسسات لان البلاد تستحق اكثر من نتيجة الفشل ..
قال سعد الحريري كلمته، وضرب بيديه الإثنتين على الطاولة .. اسمها الجمهورية اللبنانية ولن تكون أبدا جمهورية باسم أحدهم ..
(*) مسؤول شؤون الاعلام في منسقية البقاع الغربي وراشيا في "تيار المستقبل"
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.