كتب خالد صالح:
كثر هُم من لا يعرفون التفريق بين رجل الدّولة ورجل السياسة ..
سألَ أحد الوزراء الرئيس الفرنسي رينيه كوتي : "سيدي الرئيس ما الفرق بين السياسي ورجل الدولة؟".. فأجاب : "الفرق بسيطٌ جدًا، رجلُ الدولة يريدُ أن يعملَ شيئًا من أجل بلاده، والرجلُ السياسي يريدُ من بلاده أن تفعل شيئًا من أجله" ..
يُعيدنا المؤتمر الصحفي للرئيس سعد الحريري بالأمس، للحديث عما افتقدناه منذ زمن في الحياة السياسية في لبنان، إلى خامة رجالات الدولة، إلى تلك "القماشة" النادرة التي بوسعها الوقوف على "حد الشفرة" فلا تَجرح(بالفتحة) ولا تُجرح(بالضمة)، تؤدّي دورَها بأسلوبٍ رقيق بعيد عن "الشعبويات"، فيه من الواقعية ما يحملك إلى الدّهشة والتساؤل، هل مازال في عصرنا من هذه القامات؟ ..
ليس كلّ من عَمل في ميدان السياسة "رجلُ دولة"، وليس كلّ من تقلّد موقعًا تشريعيًا أو تنفيذيًا رجل دولة، فرجل الدولة ليس موقعًا فحسب وإنما موقف يتقدّم به نحو كسر الرتابة والجرأة على طرحه والسير به، رجل الدولة هو من يضع المصلحة العامة فوق الحسابات الذاتية مهما عظمت ..
سعد الحريري ومنذ أن ساقته الأقدار لميدان السياسة، لا يشعر إلاّ بالمسؤولية المتعاظمة الملقاة على كاهله يومًا تلو آخر، تعالى على نفسه كثيرًا، وكرّس حياته وجهده وعرقه لقيامة الدولة والإهتمام بها، رعاية الوطن ومواطنيه، حاضرًا ومستقبلًا، يأخذ العبر من ماضيه، يقرأ التاريخ، تاريخ بلده والمحيط، ليستنبط منه المعرفة والحكمة ويتدرب على أساليب التحليل انطلاقًا من أن السياسة الناجحة هي السياسة المستقرة التي تعتمد على حقائق الأمور في كل الميادين ..
من هذا المنطلق نستطيع النظر الى موقف الرئيس سعد الحريري في الامس، والذي وضع الأمور في نصابها، فهو ابن شهيد وليس من تجّار الهيكل الذين يستثمرون في الدماء، كذلك قراره السابق بالتصدّي للانهيار الذي يضرب مفاصل الوطن، ومن ثم الاعتذار عندما رأى أن هذه الخطوة قد تكسر الجمود القائم، الى جملة مواقفه وقراراته التي يعتبرها الكثير، خصوصًا البعض من جمهوره، تخاذلية وانهزامية ..
سعد الحريري "رجل الدولة" يشعر في قرارة أعماقه أنه لم يعد ملكًا لنفسه وإنما ملك مواطنيه، ملكُ المجتمع، هو دائم التفكير بحال بلده، كيف ينهض به؟، كيف يعلي شأنه؟، ويدرك أن ذلك لن يناله إلا بالايمان، بالوضوح، بالسمو عن الصغائر والأنانيات، بالصدق مع الذات، أما "رجل السياسة" فهو لا يفكر إلا في كيفية تأمين استمرار موقعه كسياسي مؤدّيًا "الميكيافيلية" السياسية بكلّ دقة، فهو يرى أن الوسيلة تبرّر الغاية وتضرب عرض الحائط اعتبارات القيم والمبادىء والثوابت ..
سعد الحريري رجلُ الدولة والبناء كوالده الرئيس الشهيد، لم يقترن اسمه بالدماء ولا بالقوة الاستعراضية التي ترغم ابناء طائفته على تأييده ظالمًا كان أو مظلومًا أسوة بالزعماء اللبنانيين التقليديين، هو لا يشبههم ولا يريد هذا أصلًا، لذلك يراه مناصروه انهزاميًا في بعض الأحيان، عند مقارنته بالآخرين الذين يتشبثون بمواقع الحكم من دون الالتفات مقدار ذرة إلى مصلحة الوطن والمواطنين، فمصالحهم المالية والسلطوية تتمتع بالاسبقية على كل ماعداها ..
نعم لقد هادن سعد الحريري كثيرًا، وتراجع في مواقع كثيرة، وتخلّى عن الكثير ليس لمصلحة شخصية بل لكي تبقى الدولة، يتهمونه بتفضيل مصلحته الشخصية والجريان خلف كرسي الحكم على حساب ابناء طائفته ومؤيديه لكنه في مواقفه وقراراته ما كسب شيئا من هذا، بل على العكس خسر الكثير من جمهوره وأصدقائه وداعميه، لأنه في عرف رجل الدولة يرحل الجميع وتبقى الدولة، وكي تبقى الدولة يجب عليه التضحية بالغالي والنفيس، بالمصالح الشخصية والفئوية، فما نفع الزعامة على أشلاء وطن، وما نفع كرسي الحكم المضرج بعذابات المواطنين ودماء الابرياء، ما نفع السياسة باكملها في ظل تآكل العملة وطوابير الذل الباحثة عن الوقود المفقود والخبز والدواء ..
اعتبر البعض أن سعد الحريري خسر في الاعتذار ما تبقّى له من رصيد شعبي، لكن مجريات الأمور أثبتت عكس ذلك تمامًا، وسيذكر التاريخ موقفه بالأمس كرجل دولة من الطراز الرفيع فلا صوت يرتفع فوق صوت أهالي ضحايا كارثة المرفأ، وهو مستعد للتضحية بالمناصب والفخامة الزائفة كرمى تخفيف عذابات الأهالي المفجوعين على فلذاتهم، وكرمى لوطن ابتلي برجال أشبه بمصاصي دماء لا يرعون في المواطن والوطن لا ذمة ولا ضمير ..
وضع سعد الحريري الجميع أمام مسؤولياتهم، فمن يريد العدالة فالعدالة كلٌّ لا يتجزأ، ومن يريد الحقيقة فالحقيقة كيان واحد لا يحمل وجهين ولا احتمالين، ووضع حدّا للمتاجرين بقضية انسانية سامية من الواجب الأخلاقي صونها بأشفار العيون وحمايتها من المزايدين، لأنه بهذا يبحث عن "بلسم" حقيقي لجراحات أهله وبيروته، وأسقط من أيدي "التجار" الحجة الواهية التي يتمسكون بها، فلتسقط كل الحصانات أمام الحصانة الكبرى، حصانة الحقيقة ..
سعد الحريري "رجل الدولة" ينظر للقضايا من هذه الزاوية وهنا يكمن الفرق، فهل من متعظ ؟ ..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.