لم يخترع البارود مَنْ قسّم "المال" اليوم إلى مال حلال ومال حرام، لا سيما المال الآتي، اما بأبهة الملائكة، واما بلعنة الشياطين، من هذا الصقع العربي أو من ذلك الصقع الأعجمي. ولم يخترع البارود من أدخل "المال" في معادلة "السياسة" والوطنية والأخلاقية والشرف (المال الشريف) والدين، مسبغاً عليه إما الصفات الحُسنى عندما يسقط عليه من "لدنه" تعالى، ومن إشراف الأفلاك والغيب والسموات، وإما "فتاوى" أو"تفاسير" "التحريم" عندما يسقط على غيره من "لدن" آخر. والذين يقسمون العالم والآخرة والدنيا قسمين لا ثالث لهما: الخير والشر. الحلفاء (ولو كانوا عملاء ومجرمين وفاسدين في رحاب الاصطحاب "العُلوي" والخير (ولو كانوا شرفاء لم تلطخ أيديهم بالدم ولا بالفساد في رحاب الجحيم وابليس والنار)...
هؤلاء، من الطبيعي أن يصل إيمانهم العميم إلى المال، فيقال على ألسنتهم الطاهرة المعقمة المبلسمة القديسة، إن هذا المال (الذي يأتينا) حلال، والمال الآخر، أي آخر حرام.
لم يخترع البارود مَنْ، ولكي يُبرر وفرة المال التي يعرفها له ذاك النظام الخارجي يتهم كل مال آخر... بالقرش الأسود. براو. فالايمان أيضاً لا بد من أن يحتاج إلى "إكسير" المال لكي يتعمق، تماماً، كالثقافة والاعلام وكل وسائل الاستهلاك والترفيه والحروب أيضاً، تحتاج إلى المال لكي تنفخ عبر البروباغندا، روح الشجاعة في الجوارح، والافئدة والكلى والأكباد... حتى الجيوب.
فلا بارود ولا اختراع؛ ذلك أن الذين تتبعوا تاريخ هذا البلد، منذ ما قبل الحرب (حرب أموال الآخرين واسلحتهم المدمرة علينا) وحتى الآن، انما يمكن أن يُؤرخوا لهذه المراحل والجولات والمعارك والحروب والأفكار والايديولوجيات وصولاً إلى الورع والتقوى والتواشيح والأناشيد والتراتيل والمواويل، انما يمكن أن يؤرخوا أن المال (وهو السلاح ايضاً) كان النصر الرديف الاساسي في صنع تلك الحروب والانتصارات والهزائم، وبحسب المواقيت والأنظمة. ولطالما تردد، من هنا، أو هناك، انها كانت (وما زالت) أزمنة البتروـ دولار! فنحن نسمع هذا "المصطلح" منذ الستينات... وإن تغيرت هوياته وادواره وأصحابه ومنصاته وكواليسه.
صحيح أن الحرب التي أعلنت في السبعينات على لبنان، صُورّت من قبل "ابطالها" وصانعيها وعبيدها "حرباً أهلية" دججت بشعارات "محاربة الامبريالية" أو "نظام الامتيازات" أو "عروبة لبنان" أو "استرجاع فلسطين"، أو "توحيد الوطن" أو حتى تقسيمه، لكن الصحيح أيضاً ان هذه الشعارات والميادين والميليشيات والأسلحة والصحافة والاعلام مولتها كلها. إذ كيف يمكن أن تستمر حرب خمسة عشر عاماً، بدون انقطاع تقريباً، من دون أن تصرف عليها مليارات الدولارات. مليارات من البتروـ دولار، لكن هنا علينا "التحفظ" فقد صُنفت آنئذ هذه الأموال المتدفقة على الأفرقاء المتصارعين (بالنيابة عن الآخرين) بين أموال "ثورية" تقدمية "مناهضة للامبريالية" وداعمة لحركات التحرير"، و"للشعوب المقهورة" و"للصمود والتصدي".. ومحاربة "الانعزالية" (آنئذٍ) بينما أصحاب هذا التصنيف كانوا يضعون البترو دولار الآخر في خانة الرجعية، والعمالة.. والقذارة والاستعمار (لا تنسوا الاستعمار ارجوكم).
اذاً، منذ الستينات كان عندنا بترودولار "ثوري" تقدمي، مناضل، صادق، نظيف، شريف، وبترو دولار آخر "ورائي" متخلف "عميل" "انعزالي" وسخ... وبين البترودولار المشرق بالطهارة والصمود والكفاح والمقاومة وبين البترودولار الآخر "الموبوء"، "الرجعي" كان للبنان ان يتحمل عبء هذه التصنيفات أو الأحرى التبريرات. وكما أن المال قسم في اصطلاحين "علميين" فإن السلاح أيضاً ارتبط بهما، لعلاقته الوثيقة بالمال. أكثر: انّ هذا التصنيف الثنائي شمل أيضاً (وبقوة المال والسلاح والايمان) الناس، والشعب، وحتى الأرض والطبيعة والشوارع والعصافير والدجاج وحتى الحمير (وما كان أكثرهم يصيحون بحناجر الديكة!). فبحسب التقسيم "الحالي"، وبحسب توزيعه (من الخارج) وبحسب هوية المصادر وأفكار المصادر واطماع المصادر، دفعت التخوم والحدود. فكان هناك شارع وطني يقبض بترو دولار وطنياً، وشارع انعزالي مرتبط بالانعزالية الخارجية. هناك شجرة وطنية ـ عروبية تروى بماء الدولار العروبي الثوري، وهناك شجرة غير وطنية في المناطق غير الوطنية تُسقى أيضاً بماء الدولار الآخر المرتبط بصراعات الأنظمة حتى الثورية والتقدمية والتصحيحية. وهكذا كان لهذه الحروب التحريرية (في الداخل) أن تستمر بأشكال منضوية تحت يافطة "المقاومة" فهناك "المقاومة اللبنانية" تدافع عن "امتيازاتها" وعن "لبنانيتها" و"كرامتها" (شعار الكرامة رافق كل الحروب التي شنت على لبنان!)، وهناك المقاومات الأخرى (الفلسطينية، التقدمية، العراقية، الليبية، اليمنية، السوفياتية،...!)، وكل هذه المقاومات كان لا بد لها لكي تستمر (وتستمر حروب الآخرين) أن "تتغذى" بالمال الحرام أو الحلال، الشريف أو الخائن، بحسب التنوعات الجغرافية والطائفية والإقليمية والدولية. فالمقاومة من دون مال لا تنشأ ولا تستمر... ولا تحارب، وهكذا دواليك، الى درجة "نبتت" فيها عشرات الحركات والتنظيمات والميليشيات المقاومة، على الضفتين، لأخذ "نصيبها" النضالي والكفاحي والمقاوم من "بيت المال" العربي هذا، أو من "خزائن المال العربي" ذاك... وصولاً الى "الخرج" الإسرائيلي! وماذا كانت نتيجة هذا المال الوافد بالدولار، أم بالروبل ؟ ماذا فعل هذا المال الذي استُجلب لإبقاء الصراعات مفتوحة بين اللبنانيين؟ ماذا فعل كل "فلس" أو "قرش" قبضه هذا الحزب أو هذا التنظيم أو هذه الحركة بلبنان؟ كان ان امتلأت جيوب "القادة"، و"الرؤساء" والمناضلين والمقاومين (من مجمل الضفاف)، ودمر البلد وافتقر الشعب وقتل وشرد وهجر مئات الألوف، وقُسم البلد (بالدولار)، وارتكبت المجازر (بالدولار) وخربت الدولة (بالدولار)... وكاد لبنان يزول! وليس جديداً القول أن كل قرش دفعه "الآخرون" لهذه الجبهة الداخلية أو تلك، كان القرش المسموم، الذي استخدمته الجهات الخارجية (عبر شراء الأفرقاء) المحاربة بالوكالة لاحتلال موقع في لبنان، أو للحصول على نفوذ فيه، أو للسيطرة عليه سواء ضمن ما سمي الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو ضمن ما سمي صراعات الأنظمة العربية في لبنان.
آنئذ لم يكن يسأل اللبنانيون هؤلاء المدججين بالأسلحة والأموال والسلطة: من أين لكم هذا؟ ولماذا أعطيتم هذا؟ لا! فالمعركة كانت "أعظم" من أن تطرح مثل هذه الأسئلة "الأخلاقية" المتخلفة الإستسلامية. فلا مكان للأخلاق في الصراعات(!) والهدف يبرر الوسيلة. وكان الهدف تدمير لبنان، وتسليعه، وربطه بالمحاور الخارجية، والانقلاب على "ديموقراطيته" الناشئة آنئذ. أي تحويله بازاراً "عروبياً" أو طائفياً... أو صهيونياً! أو مجموعات كانتونات غير قابلة للحياة إلا بيتامينات الدولار المتدفق من أهل الصراع لا أدامهم الله! وهذا بالتحديد، وارتباطاً بالنزاعات المتعددة الطرف، والورك، والبطن، والجيب ما يُفسّر أن يأتي في كل عقد (أو أكثر أو أقل) بحسب الوجبات الوطنية أو العروبية أو اللبنانية أو الطائفية (كل طائفة كريمة صنعت حربها بحمده تعالى وبحمد الملائكة والأولياء والقديسين)، زعيم، أو قائد مستنبت (من هذا المذهب أو ذاك) ويصنع حربه "المدمرة" الخاصة ليكرّس زعيماً ويكرّس في الوقت ذاته "عميلاً" أو تابعاً للجهة التي حولته بالسلاح والمال ليحارب جهة أخرى على صراع معها!
اليوم، ومنذ ازدهار النزعات الدينية المؤمنة والمؤصلة وَرَعاً وتقوى وشهادة وصلاة وتفانياً في خدمة "القيم" المتجددة، فإن وجهة البترودولار وسحنته وألوانه وورقه وملامسه (وهل هناك أرقّ وأنعم من ملمس الدولار الأخضر أيضاً!)، بقيت المعزوفة "التبريرية" لإعادة تصنيف الدولار أو العملة أو حتى السلاح... والأرض والجغرافيا والتاريخ. فالزمن الإيديولوجي "الثوري" (لا الثوروي) قد انقضى، وجفّت بانقضائه منابع "الدولار". فصدام في السجن. وعرفات في الآخرة. والقذافي "تعقل". واليمن عاد الى أصوله التاريخية. والاتحاد السوفياتي صار روسيا... تبدلت الأنظمة لتقوم على أنقاضها أنظمة تطبع الدولار، هذه المرة بهويتها الإيمانية وبحروبها الأممية لا الإيديولوجية السابقة، بل الدينية النضرة... وجاء بن لادن بطلاً، وقبله بنو طالبان (من صنع المخابرات الأميركية)، ثم الظواهري... ثم بوش... صار العالم كله، فجأة، مسكوناً بالإيمان... وعلى هذا الأساس الإيماني قامت ثورات دينية... وسيطرت على الأنظمة والسلطة.. ومن بينها إيران المؤمنة التي تقف في وجه "الاستكبار" العالمي، وكذلك في وجه الديموقراطيات "الغربية" الملحدة. ولكي تحارب الغرب المستكبر المتمثل خصوصاً بالولايات المتحدة (المؤمنة أيضاً)، وكذلك باسم الأمة (أي أمة؟)، لترث "العروبة" في العراق، و"الإيمان" عند طالبان (أميركا أسدت خدمة عظيمة لإيران بإزاحتها نظام صدام وإضعاف طالبان بحيث صارت طريقها سالكة الى المنطقة، ومع هذا فأميركا عدو ولو تبادلا المساعدات في العراق لإسقاط نظام صدام براو!).
إذاً، لم يعد صراع أفكار وإيديولوجيات ومعسكر شرق ـ غرب، بقدر ما صُوِّر صراع حضارات وتحديداً صراعاً بين الإسلام و"المسيحية"، أو تحديداً أيضاً بين النزعات الإسلامية الأصولية والنزعات المسيحية الأصولية بما يتقاطع معها من صراع مع الصهيونية أو أعداء المسيحية أو الإسلام...
هنا أيضاً "دولرت" المسألة! ودولرت الأمكنة. والطوائف. والمقاومات. وأشكال النضال! إنه هو هو الدولار يعود بمسميات وألقاب جديدة، وبشعارات جديدة لا توفر فسيح الجنان، ولا نار الجحيم ولا مآلات اليوم والآخرة!
إذاً، الدولار بات اليوم ذا مسحة دينية. فلنتبرّك به! وما عليك (كما كان في السابق) إلاّ أن تلعنه إذا جاء من هذه الجهة، وتحتضنه حتى الشوق والحُلولية والصوفية إذا جاء من لدن تلك الجهة المؤمنة. وعلى لبنان، وبقوة البترودولار هذا أن يتحمل الحروب، وصراعات الآخرين، وإزهاق الأرواح (الى الجنة مباشرة!)، والتدمير، والتهجير، خدمة لمصدري هذه "العملة" السماوية أو تلك "الشيطانية".. وهكذا من جديد تعود عجلة القتل والموت والخوف والرعب والحصار إلينا محمولة على أجنحة دولارية محلّقة بنا الى المجهول، والظلام، والظلامية، والطائفية!
عودة على بدء. والبدء هنا المال. والبدء هنا السلاح. والبدء هنا أن نتحول من جديد وقوداً نووياً أو حطباً في ورق المحاكم الدولية، أو صراعاً بين ألوان الدولار ومشتقاته النفطية والمذهبية.
فبورك هذا الدولار البترولي صانع الجنات وبوركت الأيدي التي ترسله إلينا على أجنحة الموت والخراب، تشتري به وطننا ومصيرنا وناسنا، وتحولنا مجرد مرتزقة ولو أبطالاً!
فمن قرش إيديولوجي، ثوري أو رجعي، الى قرش إيماني... نبقى معلقين بين هذه القروش، حيث كل قرش يقبضه هذا الحزب أو ذاك، إنما هو يزا جديدة لاسترهاننا، وجعلنا خرافاً مسمنة على مذابح الآخرين.
وقديماً قال: لا تعبدوا ربّين: الله والمال. وحديثاً نقول: لا تبيعوا الأوطان لا بالمال، ولا بالجاه... ولا بالبترودولار ولو جاءت على وقع أبواق الملائكة!
لقد دفعنا ثمن هذا الوطن ومصيره وأهله لقاء كل دولار... طلع علينا من ركام الخراب، ومن دخان الحرائق، ومن قوافل الموتى... ومن أسلحة الحروب والمجازر.. والطائفية حتى آخر لبناني كرمى لهذا الدولار... ولبتروله، ولآياته العظمى أو الصغرى! حتى نكاد نردد ما قاله ابو تمام محوّراً "المال أصدق أنباء من الكتب/ في حده الحدّ بين الجد واللعب"!
بول شاوول
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.