4 تشرين الأول 2021 | 14:08

أخبار لبنان

المتجادلون

المتجادلون

رشيد درباس



كلمات، كلمات ، كلمات

شكسبير


منذ فجر التاريخ كانت للجدل أدوار متعددة ومتناقضة، فتطور البشرية ‏وليدُجدل العناصر، تنازعاً فائتلافاً، وصقيعًا فناراً. ومسار الحياة قائم على ‏الاختلال والتوازن، فالفيضان يغرق ويُحيي، والشمس دفء واحتراق، وجدل ‏الفلاسفة لمَّا يزلْ يتراوح بين التهافت والتنوير؛ وعلى شبهِ قوانين الطبيعة ‏‏"كان الإنسان أكثر شيء جدلاً" كما في سورة الكهف. لكن الجدل الذي يظلُّ ‏يدور دائمًا حول محوره، مُتْلِفٌ للطاقة والابتكار، ووسيلةُ الخصوم لحرف ‏أنظار الفريق الآخر عن جوهر القضية.‏

ولبنان، منذ مئة عام، خريطة مثالية ناتجة عن جدل كان سليماً فصار عقيماً ‏ومستفحلاً يلتهم العقود والأجيال، ويُصَحِّرُ الأخضر، ويجفف الينابيع في ‏أعمق صخورها، ويجعل النهر الفرات مجرى تدفقسموم تتسرب إلى مسام ‏الخضار والأشجار فتحولها قنابل زمنية تنفجر أمراضاً وعِللاً مستدامة في ‏الأبدان. ولو أردنا أن نجد مرادفاً مناسباً لتعبير "مواطنون لبنانيون" لكانَ ‏‏"مجادلون لبنانيون" الأقربَ إلى الصحة لأننا لم نزلْ نجادل في ما إذا كان ‏لبنان وطناً نهائيًّا أم مشروعاً واهماً يبحث عن النقاء متنصلاً من أحمال ‏‏"زادت ديموغرافيتها عن الحد". وما زلنا على جدل فيما إذا كنا دولة مساندة ‏أو دولةًوحيدةً للمواجهة. ونحن أيضاً على جدل مُمِلٍّ حول القضاء:يَتَفَقَّهُ ‏المتفقهون، ويتوغل الباحثون، ويصيح الصائحون أن اتركوا الأمر للقضاء ‏فهو سلطة مستقلةفيجبيهم صائحون من قاطع آخر بأنه غارق في السياسة ‏ومستتبع لها، وعلينا أن نذهب إلى تحقيق دولي؛وفي هذا الخضم تضيع ‏الحقيقة لأن الجدليين على اختلافهم يخشونها ويكرهونها، فيجردون القضاء ‏من استقلاليته وأبسط مستلزماته ثم يجعلونه مشجبَ أوزارٍ يعلقون عليه ‏تنصلهم وتهربهم.‏

لقد سلخت من عمري خمسًا وخمسين في رحاب المحاماة ، صادقت ‏خلالَها قضاة من مختلف الأعمار والمناطق نزلوامن نفسي منزلة الأخوَّة، ‏بعضهم تقاعد، وبعضهم مضى؛ وكنا نلحظ معاً شذوذاً من هنا، ونفوذاً من ‏هناك، لكن موجب التحفظ بقي سيد تصرفاتهم إلى درجة أن قاضياً شاعراً لم ‏يتلُ علينا شعره في جلسة إخوانية حتى أذن له الرئيس الأول الذي كان ‏بيننا.‏

وأنا ما زلت، كلما نظرت إلى جدارٍ أَوَتْ إليه صور الرؤساء ‏القضائيين السابقين، تلبستني رهبة أمام من عرفتهم، ومهابة أمام من لم ‏أعرفهم، لأن ثيابهم المزركشة الملونة كانت تتزين برصانتهم ووقارهم ‏وحنكتهم وحزمهم.‏

أعترف الآن بأنني أكادُ أنكر ما تراه عيناي من فوضى قضائية ومن ‏‏"عكاظية" قانونية ومن امتهان للعدالة واجتراء عليها، حتى انتقلتالتحقيقاتُ ‏والمحاكماتُ من هيبة الأقواس إلى ضلالة الشاشات،ومن اتزان النصوص ‏إلى عشوائية الهتافات، فتعسف المتعسفون على اختلاف مشاربهم، ونصبوا ‏للقاضي فخًّا من التعظيم والتبجيل يحمِّله ما لا طاقة دستورية له عليه، ‏لأنَّتغيير النظام ليس منوطاً بالجسم القضائي؛كما نصبوا له من جهة أخرى ‏منابر تشكك بأدائه وتُلْبِسُه التهم وتهدده بالاقتلاع، وفي هذا تتجلى صورة ‏الجدل كما وردت في القرآن الكريم:"وإن الشياطين يوحون لأوليائهم ‏ليجادلوكم" (سورة الأنعام) والشياطين هنا بشر يتولَّون أَزِمَّتَنا ويفتتون دولتنا ‏ومؤسساتها، وينفخون في نار الطائفية، لكي تصدق عندهم مقولة جهنم.‏

في سنوات مهنتي عاقرتُ مئاتٍ من المؤلفاتِ والأحكام، وكتبتُ في ‏القانون كمحترف يبحث عن مصالح موكليه، لكنني لم أنشر يوماً بحثاً فقهيًّا ‏حتى لا أتعدى على مقام الفقهاء، فما بال كثيرين اليوم بيننا يكيلون"الفتاوى" ‏على وزنِ الطلبات؟ وما بالسياسيين عندنا يتمضمضون بالمفردات القانونية ‏كطفلٍ بحبة لبان (علكة)؟وتذهب الأمور إلى أبعد، حين ينبرى أحدهم، ويتبعه ‏آحادُهم، لتفسير معنى حرف (اللام) في كلمة "لمجلس النواب" الواردة في ‏المادة 70 من الدستورفَيَعُدُّها لام التخيير، فيما أهل اللغة يقولون إنها لام ‏التخصيص مستشهدين بمقولة "لهَّ الأمر من قبل ومن بعد"، ليتجدد الجدل ‏بعد ذلك بين من ينسبون أنفسهم "لسيبَوَيْه" ومن هم من مريدي "نَفْطَوَيه"، ‏العالم اللغوي الذي لا علاقة له بتلوث النفط ومهازل الطاقة.‏

لقد أُدْخِلَت جناية انفجار المرفأ إلى دوامة مقصودة، ابتكرها النظام ‏على جَرْي عادته في التنصل والتهرب، لأن تلك الجريمة النكراء ما كان لها ‏أن تكون لو أن مسؤولًا - أيَّ مسؤول - استعمل منصبه أو لقبه أو"مونته"، ‏وأمر الإطفائية برش الماء على النتراتإطفاءً لآثارها التفجيرية، أو أن خبيرًا- ‏أيّ خبير- نبه إلى ضرورة تجنيبهاالحرارة المرتفعة، لأنها مهما كانت نسبة ‏الأزوت فيها، لا تنفجر إلا عند درجة المئتين على قول العارفين؛لكن المحزن ‏أن منظومة ما، في مكان ما، تستثمر في مشاعر اللبنانيين وأهالي الضحايا ‏على وجه أخص، وتحرض الشارع بصورة مستدامة، وتؤشر على ‏‏"مجرمين"افتراضيينوتدينهم قبل الأوان، فتطمس بهذا حقيقةَ أن جريمة ‏المرفأ قتل عمدي تنطبق عليه المادة 549 عقوباتالمفضية إلى الإعدام، لأن ‏كل الذين عطلوا الدولة ومؤسساتها، ونخروا عظامها، كانوا يعلمون أن ‏الدمار العامَّ سيكون إحدى النتائج الكارثية لممارساتِهم، كمثل من يقطع ‏الطريق على سيارة إسعاف فينزف المريض حتى الموت، أو من يشعل ‏شمعة بطيئة الذوبان قرب برميل من البارود فينفجر، أو من يترك الدفاع ‏المدني بلا عتاد فيحترق لبنان بغاباته، أو يهمل معالجة الليطاني فتجري ‏روافدهسموماً في عروق الناس.كل ذلك في ظلِّ حملةٍ تحريضيةٍ جعلت ‏أشتاتَ أهل السياسة المتفارقين منضوين في خضوعهم لما يُسمَّىla ‎dictaturedel'emotion‏"ديكتاتورية العواطف"، على ما أشارت لي ‏قاضية صديقة جزيلة الاحترام، بعد أن ذكرني إعلاميّ كبير كيف أساءت ‏اللهفة والعشوائية، التي مارسها الإعلام بُعَيْد استشهاد الرئيس رفيق ‏الحريري، إلى الأدلة الصلبة التي دفع "الوسامان" حياتيهما ثمناً لها، وذلك ‏من خلال افتعال قرائن غلبت عليها السذاجة وانعدام الاحتراف، بما كان له ‏تأثير ملموس على حكم المحكمة الدولية الخاصة.‏

ربما أطلت في هذا الموضوع، لكنها مناسبة لألفت القراء إلى ضرورة ‏مشاهدة فيلم قديم اسمه (‏z‏) "زد" بطولة "إيف مونتان" و"جان لوي ‏ترينتينيان"، يروي حكاية معارض يوناني قُتِلَ أثناء ذهابه سيراً للاشتراك ‏في مهرجان سياسي إبان حكم الانقلابيين. فتعين قاضي تحقيق كان يرفض ‏أن يستعمل الشهود أمامه لفظة جريمة، ويصر على أنه "حادثحتى الآن"، ‏وكان يأبى أن ينادي المستمع إليهم بالمدعى عليهم، حتى استنفد الوسائل التي ‏يتيحها القانونفختم التحقيق،واستدعى الجنرالات الذي زعموا أن وفاة ‏المعارض نجمت عن حادث سير فنسب إليهم تهمة قتل المعارضمع سبق ‏الإصرار بعدما تأكد له أنه قُتِلَمضروبًا على رأسه بالهراوات على أيدي ‏مجموعة من البلطجية المستأجرين. هكذا بهدوء وأناة كانت النتيجة الواضحة ‏عنده بنت التحقيق... لا بنت اللهفة.‏

قال الفيلسوف الألماني "هيجل" بالجدلية،واعتبر الديالكتيك وسيلة ‏المناقشة والتعليل والتفسير للأسئلة وقانوناً للمنطق، فجاء من بعده ألماني آخر ‏هو "كارل ماركس"، فأخذ عنه الفكرة وحولها إلى أساس فلسفته أي المادية ‏الديالكتيكة، معتبراً أن هيجل المثالي، جعل قانونه المهم يسير على رأسه، ‏فقلبه هو ليمشي على قدميه. أما ديالكتيك السياسة اللبنانية فلا ينتمي إلى ‏‏"هيجل" أو "ماركس"، لأنه حالة تدميرية تنتاب المجموعات قبيل أفولها أو ‏زوالها، وإلا فما معنى "ديالكتيك" الحكومات التي يمتنع عليها التصويت في ‏مجلس الوزراء، وما معنى الثلث المعطل الظاهر أو الخفي، وما تفسير ‏ديالتكتيك الصلاحيات التي رتبها الدستور ضمانة لحسن سير الدولة ومصالح ‏المواطنين، فعوملت كأنها أملاك خاصة لهذه الطائفة أو تلك؛حتى إذا حاث ‏الحيث هُرِعَ القوم إلى "واإسلاماه" أو "وامسيحيّتاه" وجُلُّهم ليسوا من أهل ‏الورع، لأنهم لا يتورعون عن التمثيل بجثة الخريطةاللبنانية تحت دعاوى ‏الفدرالية والتنصل من عبء "الآخر"، من غير أن يتبصروا أن ذلك المنحى ‏لن يترك طائفة ناجية من جحيمه. فهل كتبت علينا لعنة الاستثمار في ‏الكوارث، لا للاعتبار واستنباط المعالجة، بل "لتدعيش" بعضنابعضًا، ‏‏"وداعش"أصلًا ما لهابيننا أرض صالحة؟فإذا كانت الطائفة السنية مجموعة ‏تجار لا ينظمون الزجل، كما قال أحد الفصحاء، فالتاجر يحتاج إلى استقرار ‏لأمانه ومدى حيوي لتجارته ومناخ ثقافي لرفاهه، وإذا كان المسيحيون من ‏مقلع الصخور، فلبنان صخرة معلقة بحروف قدموس زجلاً وشعراً، وإن كان ‏الشيعة أهل استشهاد، فلا وطن بغير شهداء، أما الموحدون الدروز، فهم ‏العُقَّال، وَحَسْبُهُم بهذا لقباً، وحسب لبنان أنه خلاصة هذا كله.‏

‏ إن جدل "التدعيش والتفحيش والتطفيش" بغير علم ولا هدى ولا ‏كتاب، غرضه الخروج عن النص وتضييع الأصل، فيما كتاب الدستور يضع ‏لنا القواعد الواضحة لكي "نتجادل بالتي هي أحسن"، لأن الجدل بالتي هي ‏أسوأ، إن هو إلا لَغْط كلامي بين ألْسِنَة محلية، في خدمة حناجر غير محلية ‏لا ترى في لبنان إلا مُكَبِّرَ صوت، وساحة سجال.‏





النهار 

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

4 تشرين الأول 2021 14:08