زياد سامي عيتاني*
"وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ"
لم تكن كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي في حب المصطفى عليه السلام سوى تجسيد لحالة العشق الأبدي لصاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء الممدود، ومن ثم كان يوم ميلاده صلى الله عليه وسلم حدثًا استثنائيًا في تاريخ البشرية، له مكانته الغالية في نفوس المسلمين في شتى أركان المعمورة.
ومع قدوم مولده - عليه السلام - تتبارى الأمم والشعوب في إحياء هذه الذكرى العطرة، كل حسب طريقته، فتتباين الطقوس هنا وهناك، وتتنوع مظاهر الإحياء ما بين دولة وأخرى ومدينة وغيرها، ورغم هذا الثراء في طقوس الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وتعدد مظاهره غير أن هناك رابط واحد يجمعها وسحابة كبيرة تظلها ألا وهي حب النبي صلى الله عليه وسلم...
يرجع الاهتمام بيوم المولد النبوى إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام نفسه، حين كان يصوم يوم الاثنين، ويقول: "هذا يوم وُلدت فيه"...
**
•الأيوبيون أول المحتفلين بالمولد في العراق:
تذهب بعض الدراسات إلى أن بدء الاحتفال بهذه المناسبة لم تكن في عهد الفاطميين بحسب الروايات المنتشرة، بل يعود إلى زمن الدولة الأيوبية، وهو ما أشار إليه الكاتب محمد خالد ثابت، في كتابه المعنون بـ"تاريخ الاحتفال بمولد النبي ومظاهره في العالم"، ناقلاً عن بعض مؤرخى الإسلام قولهم بأن الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى ملك إربل الذي توفي سنة 620 هجريا أول من احتفل بالمولد في زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكيف أثنى عليه العلماء ثناء عاطرا بسبب ما أبدى من اهتمام بالغ بهذا الاحتفال وما أنفق فيه من أموال طائلة وما بذل فيه من أوجه البر والصدقات وإطعام الطعام وغير ذلك مما أطنب المؤرخون في وصفه.
إذ كان يقام احتفالاً كبيرا كل عام، خلاله الأموال الكثيرة، والخيرات الكبيرة، حتى بلغت تكلفته 300000 ألف دينار، كل سنة.
إذن، بدأ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في عام 300 هجرية باقتراح من الأمير "أبو السعود مظفر الدين" كنوع من تذكير المسلمين بمولد سيد الخلق، وكان الاحتفال وقتها عبارة عن مناضد هائلة في الشارع الأعظم من الخشب ذات طبقات كثيرة بعضها فوق بعض تبلغ الأربع أو الخمس طبقات، ويجلس عليها المعنيون وكان الناس يحتفلون عن طريق السير أمام تلك المناضد ويستمتعون بما يسمعون.
**
•الفاطميون أسسوا للإحتفال في مصر:
أما عند المصريين فيعود تاريخ الاحتفال بمولد النبي إلى عهد المعز لدين الله الفاطمي الذي وضع الأساس الأول للاحتفال بهذا اليوم، وكان يهيئ له أركان الدولة بأكملها، وبحسب المؤرخين: "فإن كبار رجال الدولة المصرية حينها وعلى رأسها الخليفة والوزراء والعلماء ومعهم عامة الشعب كانوا يستقبلون هذه المناسبة الكريمة التي تبدأ من غرة ربيع الأول حتى الثاني عشر منه وكان من السمات الواضحة في هذا العصر الاحتفال بهذه المناسبة والإفراط في صنع الحلوى بأشكالها المختلفة كالطيور والقطط والخيول والعرائس (عروسة المولد).
وأسس الفاطميون نظاما يهدف إلى تخزين جميع المواد التموينية من سمن وسكر وزيت ودقيق، كي تصنع من هذه المواد الحلوى، وكانت الحلوى توزع بأمر الخليفة على جميع طبقات الشعب في جميع المناسبات الدينية وبصفة خاصة المولد النبوي، ومن هنا جاءت فكرة عروسة المولد والحصان وبعض أنواع الحلوى المشهورة بها مصر في هذه الذكرى.
أما فيما يتعلق بخيمة المولد التي تعد أحد أبرز طقوس الاحتفال بهذا اليوم عند المصريين، فتعود إلى السلطان"قايتباي" (1416-1496)، فحينما تحل الليلة الكبيرة من الاحتفال بالمولد يقيم السلطان بالحوش السلطاني خيمة في القلعة ذات أوصاف خاصة تسمى خيمة المولد، وقيل في وصف هذه الخيمة أنها زرقاء اللون على شكل قاعدة في وسطها قبة مقامة على أربعة أعمدة.
**
•الإحتفالات في زمن الدولة العثمانية:
تروي الوثائق التاريخية بأن الاحتفال بليلة الحادية عشر من ربيع الأول، أي اللية التي تسبق الثاني عشر من ربيع الأول التي توافق ليلة ميلاد النبي ﷺ، كان احتفالًا رسميًا في زمن الدولة العثمانية، وكانت تتم الاحتفالات بإدارة قصر الباب العالي ابتداءًا من عام 1910، وظلت هذه العادة مستمرة حتى تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
ولكن بعد عام 1910 أصبح الاحتفال بالمولد النبوي على المستويين الحكومي والشعبي.
كان لسلاطين الخلافة العثمانية عناية بالغة بيوم المولد النبوى الشريف، إذ كانوا يحتفلون به فى أحد الجوامع الكبيرة بحسب اختيار السلطان، فلمّا تولى السلطان عبد الحميد الثانى الخلافة قصر الاحتفال على الجامع الحميدى.
وكان يحضر إلى باب الجامع عظماء الدولة وكبراؤها بأصنافهم، وجميعهم بالملابس الرسمية التشريفية، وعلى صدورهم الأوسمة، ثم يقفون فى صفوف انتظارًا للسلطان، فإذا جاء السلطان، خرج من قصره راكبًا جوادًا من خيرة الجياد، بسرج من الذهب الخالص، وحوله موكب فخم، وقد رُفعت فيه الأعلام، ويسير هذا الموكب بين صفين من جنود الجيش العثمانى وخلفهما جماهير الناس، ثم يدخلون الجامع ويبدؤون بالاحتفال، فيبدؤون بقراءة القرآن، ثم بقراءة قصة مولد النبى محمد، ثم بقراءة كتاب دلائل الخيرات فى الصلاة على النبى، ثم ينتظم بعض المشايخ فى حلقات الذكر، فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبى، وفى صباح يوم 12 ربيع الأول، يفد كبار الدولة على اختلاف رتبهم لتهنئة السلطان.
**
•المظاهر الإحتفالية:
في العصر الحديث ما زالت كل الشعوب العربية والإسلامية تحرص على استحضار بعدين أساسيين في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ البعد الأول روحي ديني تعبدي، ويتمثل في سلسلة الاحتفالات الدينية التي تقوم على الصلاة والأناشيد والأذكار والأغاني التي تحتفي بالقيم النبوية، أما البعد الثاني فينهض على إضفاء خصوصية على هذا اليوم من خلال إعداد قائمة خاصة من الأكلات قد تختلف من قطر إلى آخر إلا أن الثابت أن ذلك يحصل أيضا بغية إطعام أكثر ما يمكن من الفقراء وكذا الأقارب والجيران، ولأجل ذلك كان لكل قطر عربي مجموعة أكلات وحلويات تعد خصيصا في يوم المولد.
إلا أن أكثر بلدين يتميزين بطقوسهما الإحتفالية بالذكرى الشريفة هما مصر والمغرب.
-في مصر:
إن الاهتمام الشديد لدي المصريين بتلك الأعياد الدينية كونها ميراث مصري قديم يضرب بجذوره في عمق التاريخ المصري الذي شهد اهتماما بإقامة طقوس وتقاليد دقيقة في أعياد المولد النبوى الشريف، حيث تٌقام فيه شوادر كبيرة حول المساجد الكبري والميادين في جميع مدن مصر وخاصة القاهرة التى تمتلئ بمساجد أولياء الله والصالحين، كمسجد الإمام الحسين، والسيدة زينب ، والسيدة نفيسة".
وتضم تلك الشوادر زوار المولد من مختلف قري مصر والباعة الجائلين بجميع فئاتهم، وألعاب التصويب، وبائعي الحلوي، والأطعمة وسيركا بدائيا يضم بعض الألعاب البهلوانية، وركنا للمنشدين والمداحين المتخصصين في مدح الرسول صلي الله عليه وسلم.
وترتبط الفرحة لدى أهل مصر المحروسة بالسكر فهو من أهم وسائل المصريين للتعبير عن الفرحة لذا فهو أحد الحاضرين بقوة فى الاحتفال بمولد سيد الخلق وخاتم المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام بتشكيلة غير معقولة من الحلويات الخاصة فقط بالمولد النبوى.
وتعد حلوي العروسة والحصان من المظاهر التي ينفرد بها المولد النبوي الشريف في مصر حيث تنتشر في جميع محال الحلوي شوادر تعرض فيها ألوان وأشكال عدة، بالاضافة الى انواع الحلويات الاخرى كـ "السمسمية والحمصية والجوزية والبسيمة والفولية والملبن المحشو بالمكسرات".
واختلفت الروايات فى شأن السبب الذى أدى إلى صناعة عروس المولد، وأبرزها ما قيل فى هذا أن الخليفة كان يشجع جنوده المنتصرين على أعدائه بتزويجهم بعروس جميلة، لتصبح عادة مع الوقت وأثناء احتفالات النصر يقوم ديوان الحلوى التابع للخليفة بصناعة عرائس من الحلوى لتقديمها كهدايا للجنود والأطفال، وقيل أيضا إن بداية عروس المولد كانت فى عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، حيث كانت زوجته تخرج معه في يوم المولد النبوي بثوب أبيض وعلى رأسها تاج من الياسمين، فقام صناع الحلوى برسم الأميرة والحاكم في قالب الحلوى على هيئة عروس جميلة والحاكم تم صنعه كفارس على جواده.
وهنا أمر الحاكم بأمر الله أن تتزامن كل حفلات الزواج مع مولد النبي وهو ما يفسر سر العروس التى تصنع في مناسبة المولد بشكلها الرائع وألوانها الجميلة، وعلى مدار الزمان تفنن المصريون في صناعة حلوى المولد بمختلف أنواعها وأحجامها
-في المغرب:
كما حظي المولد النبوي فى عهد سلاطين المغرب بالأقصى بأهمية عالية، وخاصة في عهد السلطان أحمد، حيث كان يبدأ بجمّع المؤذنين من أرض المغرب، ثم يأمر الخياطين بتطريز أبهى أنواع المطرَّزات مع بداية شهر ربيع الاول.
ومع ظهور فجر يوم المولد النبوي، كان يخرج السلطان فيُصلى بالناس ويجلس على أريكته، ثم يدخل الناس أفواجاً على طبقاتهم ويجلسون، ليستمعوا الى الواعظ الذى يسرد لهم فضائل النبي محمد ومعجزاته، ثم يستمتعون بإلقاء الأشعار والمدائح، فإذن انتهوا، بُسط للناس موائد الطعام.
أما في العصر الحديث وعند حلول غرة شهر ربيع الأول وإلى غاية الثاني عشر منه وهو يوم الاحتفال بالعيد، تنطلق الاحتفالات بمختلف مظاهرها تعظيما لمولد الرسول الكريم، حيث تقام في عدد من مساجد المملكة بين صلاتي المغرب والعشاء دروس في السيرة النبوية وأمداح نبوية وموشحات دينية وغيرها من الاحتفالات، وعند اقتراب موعد صلاة الفجر من يوم العيد يقام حفل آخر ينطلق بقراءة الأمداح النبوية والتي تستمر إلى غاية الوقت الذي ولد فيه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ( قبل صلاة الفجر) وتستمر الاحتفالات بعد صلاة الفجر.
ولعل أبرز احتفال لدى المغاربة، عادة مترسخة يحرصون على إحيائها منذ زمن طويل وهي ليلة “الميلودية”، إذ تقام هذه الليلة في البيوت من طرف بعض العائلات والأسر المرتبطة بمظاهر التصوف محبة في الرسول الكريم، كما تعد مناسبة لتجمع الأسرة والعائلة، حيث تفتتح بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم وقراءة الأمداح والمواويل.
ودور الشمع هو موكب للشموع تمتاز به مدينة سلا (جوار العاصمة) وتقليد سنوي يروى أنه يعود لخمسة قرون مضت حين أقيم أول احتفال بموسم الشموع كان في أول ذكرى للمولد النبوي من حكم السلطان أحمد المنصور الذهبي في سنة 986 للهجرة (1578 ميلادي).
ويمتاز دور الشمع باستعراض في الشارع تشارك فيه فرق تراثية من كل المغرب وتعرض فيه مجسمات الشموع المستوحاة من الزخرفة الإسلامية وهوادج مطرزة بالشمع تزن كل واحدة منها ما بين 15 إلى خمسين كيلوغراما وتحمل على الأكتاف وتجوب شوارع المدينة.
**
مولد الرسول الكريم هو إطلالة للرحمة الإلهية فى التاريخ الإنسانى، عبر عنه القرآن الكريم بأنه رحمة للعالمين، وهذه الرحمة لم تكن محدودة فهي تشمل تربية البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم وتقدمهم على صعيد حياتهم المادية والمعنوية...
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.