17 تشرين الأول 2021 | 20:14

منوعات

إحتفالات المولد النبوي الشريف.. تعدّدت الطقوس والحبيب واحد

زياد سامي عيتاني*‏



‏"وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ

وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ"‏



لم تكن كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي في حب المصطفى عليه السلام سوى ‏تجسيد لحالة العشق الأبدي لصاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء ‏الممدود، ومن ثم كان يوم ميلاده صلى الله عليه وسلم حدثًا استثنائيًا في تاريخ ‏البشرية، له مكانته الغالية في نفوس المسلمين في شتى أركان المعمورة.‏

ومع قدوم مولده - عليه السلام - تتبارى الأمم والشعوب في إحياء هذه الذكرى ‏العطرة، كل حسب طريقته، فتتباين الطقوس هنا وهناك، وتتنوع مظاهر الإحياء ما ‏بين دولة وأخرى ومدينة وغيرها، ورغم هذا الثراء في طقوس الاحتفال بالمولد ‏النبوي الشريف وتعدد مظاهره غير أن هناك رابط واحد يجمعها وسحابة كبيرة ‏تظلها ألا وهي حب النبي صلى الله عليه وسلم...‏

يرجع الاهتمام بيوم المولد النبوى إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام نفسه، حين ‏كان يصوم يوم الاثنين، ويقول: "هذا يوم وُلدت فيه"...‏

‏**‏

‏•الأيوبيون أول المحتفلين بالمولد في العراق:‏

تذهب بعض الدراسات إلى أن بدء الاحتفال بهذه المناسبة لم تكن في عهد الفاطميين ‏بحسب الروايات المنتشرة، بل يعود إلى زمن الدولة الأيوبية، وهو ما أشار إليه ‏الكاتب محمد خالد ثابت، في كتابه المعنون بـ"تاريخ الاحتفال بمولد النبي ومظاهره ‏في العالم"، ناقلاً عن بعض مؤرخى الإسلام قولهم بأن الملك المظفر أبو سعيد ‏كوكبرى ملك إربل الذي توفي سنة 620 هجريا أول من احتفل بالمولد في زمن ‏السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكيف أثنى عليه العلماء ثناء عاطرا بسبب ما أبدى ‏من اهتمام بالغ بهذا الاحتفال وما أنفق فيه من أموال طائلة وما بذل فيه من أوجه ‏البر والصدقات وإطعام الطعام وغير ذلك مما أطنب المؤرخون في وصفه.‏

إذ كان يقام احتفالاً كبيرا كل عام، خلاله الأموال الكثيرة، والخيرات الكبيرة، حتى ‏بلغت تكلفته 300000 ألف دينار، كل سنة.‏

إذن، بدأ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في عام 300 هجرية باقتراح من الأمير ‏‏"أبو السعود مظفر الدين" كنوع من تذكير المسلمين بمولد سيد الخلق، وكان ‏الاحتفال وقتها عبارة عن مناضد هائلة في الشارع الأعظم من الخشب ذات طبقات ‏كثيرة بعضها فوق بعض تبلغ الأربع أو الخمس طبقات، ويجلس عليها المعنيون ‏وكان الناس يحتفلون عن طريق السير أمام تلك المناضد ويستمتعون بما يسمعون.‏

‏**‏

‏•الفاطميون أسسوا للإحتفال في مصر:‏

أما عند المصريين فيعود تاريخ الاحتفال بمولد النبي إلى عهد المعز لدين الله ‏الفاطمي الذي وضع الأساس الأول للاحتفال بهذا اليوم، وكان يهيئ له أركان الدولة ‏بأكملها، وبحسب المؤرخين: "فإن كبار رجال الدولة المصرية حينها وعلى رأسها ‏الخليفة والوزراء والعلماء ومعهم عامة الشعب كانوا يستقبلون هذه المناسبة الكريمة ‏التي تبدأ من غرة ربيع الأول حتى الثاني عشر منه وكان من السمات الواضحة ‏في هذا العصر الاحتفال بهذه المناسبة والإفراط في صنع الحلوى بأشكالها المختلفة ‏كالطيور والقطط والخيول والعرائس (عروسة المولد).‏

وأسس الفاطميون نظاما يهدف إلى تخزين جميع المواد التموينية من سمن وسكر ‏وزيت ودقيق، كي تصنع من هذه المواد الحلوى، وكانت الحلوى توزع بأمر الخليفة ‏على جميع طبقات الشعب في جميع المناسبات الدينية وبصفة خاصة المولد ‏النبوي، ومن هنا جاءت فكرة عروسة المولد والحصان وبعض أنواع الحلوى ‏المشهورة بها مصر في هذه الذكرى.‏

أما فيما يتعلق بخيمة المولد التي تعد أحد أبرز طقوس الاحتفال بهذا اليوم عند ‏المصريين، فتعود إلى السلطان"قايتباي" (1416-1496)، فحينما تحل الليلة الكبيرة ‏من الاحتفال بالمولد يقيم السلطان بالحوش السلطاني خيمة في القلعة ذات أوصاف ‏خاصة تسمى خيمة المولد، وقيل في وصف هذه الخيمة أنها زرقاء اللون على شكل ‏قاعدة في وسطها قبة مقامة على أربعة أعمدة.‏

‏**‏

‏•الإحتفالات في زمن الدولة العثمانية:‏

تروي الوثائق التاريخية بأن الاحتفال بليلة الحادية عشر من ربيع الأول، أي اللية ‏التي تسبق الثاني عشر من ربيع الأول التي توافق ليلة ميلاد النبي ﷺ، كان احتفالًا ‏رسميًا في زمن الدولة العثمانية، وكانت تتم الاحتفالات بإدارة قصر الباب العالي ‏ابتداءًا من عام 1910، وظلت هذه العادة مستمرة حتى تأسيس الجمهورية التركية ‏عام 1923.‏

ولكن بعد عام 1910 أصبح الاحتفال بالمولد النبوي على المستويين الحكومي ‏والشعبي. ‏

كان لسلاطين الخلافة العثمانية عناية بالغة بيوم المولد النبوى الشريف، إذ كانوا ‏يحتفلون به فى أحد الجوامع الكبيرة بحسب اختيار السلطان، فلمّا تولى السلطان ‏عبد الحميد الثانى الخلافة قصر الاحتفال على الجامع الحميدى.‏

وكان يحضر إلى باب الجامع عظماء الدولة وكبراؤها بأصنافهم، وجميعهم ‏بالملابس الرسمية التشريفية، وعلى صدورهم الأوسمة، ثم يقفون فى صفوف ‏انتظارًا للسلطان، فإذا جاء السلطان، خرج من قصره راكبًا جوادًا من خيرة ‏الجياد، بسرج من الذهب الخالص، وحوله موكب فخم، وقد رُفعت فيه الأعلام، ‏ويسير هذا الموكب بين صفين من جنود الجيش العثمانى وخلفهما جماهير الناس، ‏ثم يدخلون الجامع ويبدؤون بالاحتفال، فيبدؤون بقراءة القرآن، ثم بقراءة قصة مولد ‏النبى محمد، ثم بقراءة كتاب دلائل الخيرات فى الصلاة على النبى، ثم ينتظم بعض ‏المشايخ فى حلقات الذكر، فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبى، ‏وفى صباح يوم 12 ربيع الأول، يفد كبار الدولة على اختلاف رتبهم لتهنئة ‏السلطان.‏

‏**‏

‏•المظاهر الإحتفالية: ‏

في العصر الحديث ما زالت كل الشعوب العربية والإسلامية تحرص على ‏استحضار بعدين أساسيين في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ البعد الأول روحي ‏ديني تعبدي، ويتمثل في سلسلة الاحتفالات الدينية التي تقوم على الصلاة والأناشيد ‏والأذكار والأغاني التي تحتفي بالقيم النبوية، أما البعد الثاني فينهض على إضفاء ‏خصوصية على هذا اليوم من خلال إعداد قائمة خاصة من الأكلات قد تختلف من ‏قطر إلى آخر إلا أن الثابت أن ذلك يحصل أيضا بغية إطعام أكثر ما يمكن من ‏الفقراء وكذا الأقارب والجيران، ولأجل ذلك كان لكل قطر عربي مجموعة أكلات ‏وحلويات تعد خصيصا في يوم المولد.‏

إلا أن أكثر بلدين يتميزين بطقوسهما الإحتفالية بالذكرى الشريفة هما مصر ‏والمغرب.‏

‏-في مصر:‏

‏ إن الاهتمام الشديد لدي المصريين بتلك الأعياد الدينية كونها ميراث مصري قديم ‏يضرب بجذوره في عمق التاريخ المصري الذي شهد اهتماما بإقامة طقوس وتقاليد ‏دقيقة في أعياد المولد النبوى الشريف، حيث تٌقام فيه شوادر كبيرة حول المساجد ‏الكبري والميادين في جميع مدن مصر وخاصة القاهرة التى تمتلئ بمساجد أولياء ‏الله والصالحين، كمسجد الإمام الحسين، والسيدة زينب ، والسيدة نفيسة".‏

وتضم تلك الشوادر زوار المولد من مختلف قري مصر والباعة الجائلين بجميع ‏فئاتهم، وألعاب التصويب، وبائعي الحلوي، والأطعمة وسيركا بدائيا يضم بعض ‏الألعاب البهلوانية، وركنا للمنشدين والمداحين المتخصصين في مدح الرسول صلي ‏الله عليه وسلم.‏

وترتبط الفرحة لدى أهل مصر المحروسة بالسكر فهو من أهم وسائل المصريين ‏للتعبير عن الفرحة لذا فهو أحد الحاضرين بقوة فى الاحتفال بمولد سيد الخلق ‏وخاتم المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام بتشكيلة غير ‏معقولة من الحلويات الخاصة فقط بالمولد النبوى.‏

وتعد حلوي العروسة والحصان من المظاهر التي ينفرد بها المولد النبوي الشريف ‏في مصر حيث تنتشر في جميع محال الحلوي شوادر تعرض فيها ألوان وأشكال ‏عدة، بالاضافة الى انواع الحلويات الاخرى كـ "السمسمية والحمصية والجوزية ‏والبسيمة والفولية والملبن المحشو بالمكسرات".‏

واختلفت الروايات فى شأن السبب الذى أدى إلى صناعة عروس المولد، وأبرزها ‏ما قيل فى هذا أن الخليفة كان يشجع جنوده المنتصرين على أعدائه بتزويجهم ‏بعروس جميلة، لتصبح عادة مع الوقت وأثناء احتفالات النصر يقوم ديوان الحلوى ‏التابع للخليفة بصناعة عرائس من الحلوى لتقديمها كهدايا للجنود والأطفال، وقيل ‏أيضا إن بداية عروس المولد كانت فى عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، حيث كانت ‏زوجته تخرج معه في يوم المولد النبوي بثوب أبيض وعلى رأسها تاج من ‏الياسمين، فقام صناع الحلوى برسم الأميرة والحاكم في قالب الحلوى على هيئة ‏عروس جميلة والحاكم تم صنعه كفارس على جواده.‏

وهنا أمر الحاكم بأمر الله أن تتزامن كل حفلات الزواج مع مولد النبي وهو ما يفسر ‏سر العروس التى تصنع في مناسبة المولد بشكلها الرائع وألوانها الجميلة، وعلى ‏مدار الزمان تفنن المصريون في صناعة حلوى المولد بمختلف أنواعها وأحجامها

‏-في المغرب:‏

كما حظي المولد النبوي فى عهد سلاطين المغرب بالأقصى بأهمية عالية، وخاصة ‏في عهد السلطان أحمد، حيث كان يبدأ بجمّع المؤذنين من أرض المغرب، ثم يأمر ‏الخياطين بتطريز أبهى أنواع المطرَّزات مع بداية شهر ربيع الاول.‏

ومع ظهور فجر يوم المولد النبوي، كان يخرج السلطان فيُصلى بالناس ويجلس ‏على أريكته، ثم يدخل الناس أفواجاً على طبقاتهم ويجلسون، ليستمعوا الى الواعظ ‏الذى يسرد لهم فضائل النبي محمد ومعجزاته، ثم يستمتعون بإلقاء الأشعار والمدائح، ‏فإذن انتهوا، بُسط للناس موائد الطعام.‏

أما في العصر الحديث وعند حلول غرة شهر ربيع الأول وإلى غاية الثاني عشر ‏منه وهو يوم الاحتفال بالعيد، تنطلق الاحتفالات بمختلف مظاهرها تعظيما لمولد ‏الرسول الكريم، حيث تقام في عدد من مساجد المملكة بين صلاتي المغرب والعشاء ‏دروس في السيرة النبوية وأمداح نبوية وموشحات دينية وغيرها من الاحتفالات، ‏وعند اقتراب موعد صلاة الفجر من يوم العيد يقام حفل آخر ينطلق بقراءة الأمداح ‏النبوية والتي تستمر إلى غاية الوقت الذي ولد فيه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ‏‏( قبل صلاة الفجر) وتستمر الاحتفالات بعد صلاة الفجر.‏

ولعل أبرز احتفال لدى المغاربة، عادة مترسخة يحرصون على إحيائها منذ زمن ‏طويل وهي ليلة “الميلودية”، إذ تقام هذه الليلة في البيوت من طرف بعض العائلات ‏والأسر المرتبطة بمظاهر التصوف محبة في الرسول الكريم، كما تعد مناسبة ‏لتجمع الأسرة والعائلة، حيث تفتتح بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم وقراءة ‏الأمداح والمواويل.‏

ودور الشمع هو موكب للشموع تمتاز به مدينة سلا (جوار العاصمة) وتقليد سنوي ‏يروى أنه يعود لخمسة قرون مضت حين أقيم أول احتفال بموسم الشموع كان في ‏أول ذكرى للمولد النبوي من حكم السلطان أحمد المنصور الذهبي في سنة 986 ‏للهجرة (1578 ميلادي).‏

ويمتاز دور الشمع باستعراض في الشارع تشارك فيه فرق تراثية من كل المغرب ‏وتعرض فيه مجسمات الشموع المستوحاة من الزخرفة الإسلامية وهوادج مطرزة ‏بالشمع تزن كل واحدة منها ما بين 15 إلى خمسين كيلوغراما وتحمل على الأكتاف ‏وتجوب شوارع المدينة.‏

‏**‏

مولد الرسول الكريم هو إطلالة للرحمة الإلهية فى التاريخ الإنسانى، عبر عنه ‏القرآن الكريم بأنه رحمة للعالمين، وهذه الرحمة لم تكن محدودة فهي تشمل تربية ‏البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم وتقدمهم على صعيد ‏حياتهم المادية والمعنوية...‏

‏**‏

‏*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

17 تشرين الأول 2021 20:14