6 كانون الأول 2021 | 19:06

أخبار لبنان

طريق الحريري

طريق الحريري

رشيد درباس - النهار

هِي الطَّريقٌ، وإنْ طَالَتْ سَنَمْشيها

وَلِلأفاعي فَحيحٌ في حَواشيها

حسيب غالب

لن أذهب إلى ما قبل العام 1920، ولن أستشهد بالتوراة ولا بما قاله المتنبي، بل أسلِّم، بأن الكيان اللبناني هو خلاصة عملية ضم عقارية بقرار فرنسي، نتجت عنها هوية واحدة أعطيت لسكان تلك العقارات المنضمة أو المضمومة بعضها إلى بعض. وأسَلِّمُ أيضًا بأن غالبية المشاعر لدى الطائفة السنية أصابها مضضٌ لانكماش دورها وانقباض نفوذها، بعدما كان انتماؤها للسلطنة يمنحها وجاهة افتراضية، ودعوتها للعروبة توليها الريادة في استعادة الهوية القومية التي طُمِسَتْ تحت سنوات الحكم العثماني.

وأسَلِّم أيضًا وأيضًا بأن الكيان وُجِدَ لتكون فيه للطائفة المارونية الكلمةُ العليا من ضمن معادلة أخذت بعين الاعتبار وزن الوجود السني والإسلامي عمومًا، فكان الإعلان عملاً احتفاليًّا شارك فيه بطرك ومُفْتٍ، وحشد من شخصيات ذلك الزمان، وتشكلت بهذا طبقة سياسية من مختلف الانتماءات تحت رئاسةٍ كانت معقودة لمسيحي، لم يكن بالضرورة مارونيًّا.

أنشىء لبنان الكبير ذاك على معادلة قوامها مركز مسيحي، ومدى حيوي متنوع. لكن قيام دولة إسرائيل واندلاع حركة التحرر العربي وسَّع الانقسام الفكري والعاطفي بين اللبنانيين من دون المساس العميق بالمصالح المشتركة التي تولَّدت بينهم في دورة اقتصادية أثبتت نجاحًا رغم نمط الإنتاج المختل والقائم بالدرجة الأولى على الحرية الاقتصادية ولجوء أموال سورية وعربية أخرى إلى المصارف اللبنانية والصناعات بما أدى إلى ازدهار غير متوازن نتيجة إهمال المركز للأطراف، فما أن سنحت الفرصة للديمغرافيا المتكاثرة حتى تغَوَّلَت على المركز، فراحت تعلو وتخفت فكرة الفدرالية عند بعضهم، وفكرة الإلحاق عند آخرين، وذلك بفعل انفلات التوازن بين المركز والمدى الحيوي.

لكن، برغم ما تقدم من مسلمات، فإن مئة عام من العيش في كنف دولة واحدة، وضمن حدود دولية معترف بها، وسريان قوانين واحدة على المواطنين يطبقها قضاء واحد، وبحكم المرافق المشتركة، والاقتصاد المتداخل أصبح تبعيض عناصر هذه الدولة عسيرًا بفعل انتظام الحياة وتأثرها بما يحدث داخل ذلك المُتَّحَد، من غير إهمال الهجرة الريفية التي جعلت من المدن مساحات للتداخل السكني، وبالتالي للتداخل المعيشي بعناصره كافة.

فلو تفحصنا الأحداث التي عصفت بلبنان منذ العام 1969، حتى الرابع عشر من شباط 2005، لوجدنا أن الطوائف التي لجأت إلى أحلاف خارجية لتعزيز أوضاعها في صراعاتها الداخلية، قد أصيبت بالخيبات، إذ تبين لعقلائها، أنها لم تكن سوى وقود الصراع الإقليمي والدولي؛ فبعد الاجتياح الإسرائيلي وخروج المقاومة من لبنان، ثم بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب، وانسحاب الجيش السوري إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، لم يعد لبنان محط اهتمام الاستراتيجيات الخارجية، بل تركز الاهتمام عليه إنسانيًّا وعاطفيًّا بسبب اللجوء السوري المرهِق، من غير أن يتعدى ذلك دفعَ بدلات إقامة متناقصة، وبعضَ الإغاثة التي لا تغني الإخوة السوريين عن عودتهم إلى وطنهم. لقد تعاملت الدول المانحة مع أرضنا كأنها عنابر إيواء وأهملت التصدي المطلوب لأساس المشكلة.

من هنا أقول إن الطوائف، عادت على أعقابها من وهم الدعم الخارجي، وربما بقيت الطائفة الشيعية في حالة استثناء لأن المشروع الإيراني ما زال قيد البحث.

فإذا ما عدنا إلى الطائفة السُّنَّية عاشقة العروبة، بدعاتها قسطنطين زريق وجورج أنطونيوس وميشال عفلق وجورج حبش، ومؤيدة الناصرية من مسام جلدها حتى النخاع الشوكي، والموالية للثورة الفلسطينية بلا تحفظ، لوجدناها الآن منكفئة عن آمالها التي زوَّرَها الأدعياء، متألمة مما أصابها من كدمات في الأبدان والنفوس، مطعونة بسهام أخوية، متهمة بالإرهاب والتطرف، لكن هذا لم يمس تمسكها بعروبتها بعد أن ضخَّت معانيها من المشاعر إلى الوعي الذي استوعب تمامًا قيمة الدولة اللبنانية وحقيقة الرسالة التي تؤديها وضرورة هذه الدولة لكل فرد منها، بل لكل مواطن لبناني.

لقد أدرك اللبنانيون جميعًا أن التنوع نعمة لا نقمة، فقد كان العامل الرئيس الذي أنقذ لبنان من أن يُحْكم من نظام استبدادي توتاليتاري، على غرار ما ساد في الجوار.

وتجدر الإشارة إلى أن رهطًا من قادة السنة، دفعوا حيواتهم ثمنًا لوعيهم المتقدم بقيمة لبنان، وما زالت أسماؤهم منارات للنفوس الحزينة كالشهداء رياض الصلح ورشيد كرامي والشيخ حسن خالد والدكتور صبحي الصالح وناظم القادري، إلى أن وقع الزلزال الكبير باغتيال الرئيس الحريري الذي وضع نصب عينيه إخراج وطنه من مأساته، فَسَخَّر لهذا إيمانه وذكاءه وماله، فلم يُحْجِمْ عن تقديم أملاكه العقارية ضمانةً لمصرف لبنان مقابل مد الحكومة بالسيولة كما أخبرني الرئيس السنيورة؛ وسَخَّر لهذا أيضًا دالَّتَه على المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وعلاقاتِه الدوليةَ المترامية وأسلوب طمأنة السوريين إلى حسن نياته، ومساندته للمقاومة، ولكن غاب عن باله، رغم كل بوالص التأمين هذه، أنه كان يرتكب "جريمة" محاولة استخلاص الدولة من براثن الجوارح، فحق عليه القتل مهما كانت العواقب. أما القَتَلَةُ ففاتهم أن المهمة التي كان يقودها شخص صارت ملك شعب برمته، وأن رفض نتائج الاغتيال تمخض عن اختيار سعد رفيق الحريري لإكمال المسيرة، معزَّزًا بتأييد مسيحي إسلامي غير مسبوق ومؤازرة عربية ودولية. لن أسترسل هنا في سرد الأحداث التي تلت، بل أسارع للانتقال إلى النتائج التي يعانيها لبنان قبيل الانتخابات النيابية والتي تعانيها على وجه أخص الطائفة السنية التي تعتبر الآن أشد المجموعات تمسكًا بالدولة - الملاذ بعد أن عزَّت الملاذات الخارجية.

فلو أردنا توصيف الحالة الحريرية الآنَ على الصعيدين الوطني والسني لوجدنا الآتي:

- إن الذي رفع شعار "لبنان أولاً" وجعله عقيدة عميقة في جمهوره يفتقد الحلفاء الذين طالما تغنوا بهذا الشعار.

- إن وريث رفيق الحريري، وأكبر المساهمين في شركة "أوجيه" العملاقة فقد ثروته أو معظمها في الإنفاق على العمل السياسي من غير إسناد من باقي الورثة ولو بالكلمة الطيبة.

- إن الرعاية العربية أشاحت عنه وجهها لأسباب لا ندركها.

- إن عدم تطابق النتائج التي توقعها مع الخيارات السياسية المفصلية التي سار فيها، كاد يجعله يدفع الثمن منفردًا رغم وجود شركاء لهم وزنهم في تلك الخيارات.

- إن كثيراً من أدعياء "الزعامة" القائمة على "الزعم" يتخيَّل أن الرياح تنفخ في أشرعتهم، مثلما ينفخ الغرور في عقولهم.

- إن الرئيس الحريري يلوذ بصمت عميق ويحيط جمهوره بغموض يعجز عن كشفه عتاة المُبَصِّرين.

فلو اكتفيت بسرد تلك النتائج لأنتقل إلى ما يقال عن عزمه على الانكفاء وعدم الترشح لَحَقَّ علي أن أصارحه، كما أفعل دائمًا، وأقول له إن مجامع مشاعر اللبنانيين لا تزال مصرة على السير في الطريق الحريري الوعر، رغم ملمس اسمه الناعم، لأن الشهيد لم يستبعد يومًا احتمال أن يكون شهيد طموحه الوطني، ولكنه أصرَّ على الثبات، حتى اقتحم الرابع عشر من شباط، فما كان الانفجار إلا فاتحة لمسيرة متواصلة، قَبِلَها سعد فصار أسيرها ومتورطًا فيها دون أي حق بالرجوع.

أصارحك أيها الصديق العزيز جدًّا، بأننا نفهم ظروفك المالية والاجتماعية والعاطفية، ونعلم أنك بصدد إعادة تكوين أعمال جديدة قد تكون مشروطة باعتزالك السياسة، وندرك مدى المرارة التي تكابدها جراء عدم انطباق حساب الحقل على حساب البيدر، والجحود الذي تلقاه، وغرق الأقربين بأوهام الحلول محلك. لكننا نعرف كثيرًا أن "كونسرسيوم" أعدائك المتناقضين لا يعاقبك على انتخابك ميشال عون، وموافقتك على قانون الانتخاب السيء، أو خلاف ذلك من التسويات التي عقدتها( فقد كانوا كلهم في ذاك شركاء أو سماسرة)، بل أنت مُستهدف بذاتك للّذي ما زلت تشكله من بقية وحدة طائفتك، بما هي عامل اساس في استعادة وحدة الوطن، ودليلي على ذلك أن شعارًا ماورائيًّا عدميًّا يقول:"الطائفة غنية ولا بد أنها ستفرز قيادة جديدة" كأن الطائفة "فقاسة بيض"، علمًا أن أصحاب ذلك الشعار لا يحوزون من عدة امتلاك مكانك إلا الغرورَ والتمني. ولا يفوتني، أن أحدهم المغالي في عدائه للاحتلال الإيراني، يطلب إلى اللبنانيين أن يكفوا عن أوهام استنساخ زعامة رفيق الحريري، فيما يجهر "مفكر فذ ُّ" من المقلب الآخر في لقاء حزبي بأنه يكفي الرئيس عون والتيار الوطني الحر ورئيسه فخرًا أنه في عهدهم تم تقزيم وليد جنبلاط في جبل لبنان، وإلغاء سعد الحريري من الحياة السياسية، بل أردف قائلاً:" لكم أن تفخروا، لأن حنكة القيادة العونية كفتنا مؤونة حرب كان لا بد منها للتخلص من ذلك الرجل؛ تراه ما اكتفى فخرًا بما آلت إليه حياة اللبنانين؟؟

فلماذا يا دولة الرئيس، يريدون التخلص منك، وأنت أول المعتدلين، وطليع التسوويين، وكبير الهادئين، وفريد بين المتسامحين الذين يغفرون الإساءات الجارحة والتصرفات الجاحدة؟ الجواب بسيط وهو أنك ما زلت تشكل المرجع الوطني للطائفة السنية ومستديرة التواصل مع المكونات، فإذا ما اعتكفت أو تنحيت أو اعتزلت، فسيمر زمن طويل قبل أن تفرز الطائفة القيادة الجديدة، أو تستنسخ مرجعًا كأبيك، وستتوزع الولاءات مناطقيًّا وسياسيًّا وربما عائلياً، وسيكون للداعش نصيب، والفاحش نصيب أكبر، وللمراهقين أنصبة، بما يؤدي إلى فقدان لبنان الدور الوطني التوحيدي الذي قام به السنة وما زالوا يمارسونه بأشكال متعددة.

أختم هذا الكلام بمناشدتِك أن تجرب مرة أخرى محبة الناس لإرثك الوطني، وأنت في حالة عُسر، فربما كان للفقراء فضل أكثر تأثيرًا من الذين أثرَوْا من حولك، فإذا صح ما قيل من أن استئناف حركتك السياسية سيفقدك أعمالك الجديدة، فإني أقول لك، هيّا إلى خير العمل، فوالله لا أرى أشرف لمائدة بيت الوسط من أن تتقاسم الجوع مع الجموع. هناك من أدار لك ظهر المجن لأنك فقدت الطاقة المستمدَّة، فعليك إذن بالطاقة المستجدَّة، فالنُّواة الصلبة أساس النخيل، والقضية أصل السياسة، وحبة الحنطة مرج سنابل.

أيها العزيز

لا يعيبك أن ضاقت بك الحال، فمعظم أهلك باتوا مجاورين لخط البؤس، لكن الذين اغتنَوْا حين افتقرت، كانوا قشورًا وكنت اللُّباب، وكانوا الحَباب وكنت الشراب، فكم من إرث تمتع به وارثٌ جَحَدَ مورثَه، وأما أنت، فبعد فقدانِك إرثَ أبيك، لم يزل أبوك يتحرك فيك.

وَخَيْرُ النَّاسِ ذو حَسَبٍ قَديمٍ أَقَامَ لِنَفْسهِ حَسَبًا جَديدا


يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

6 كانون الأول 2021 19:06