9 آذار 2019 | 00:00

منوعات

نحتاج إلى "الجمال" بقدر احتياجنا لرغيف الخبز!..

نحتاج إلى

قبل أكثر من قرن من الزمن، كتب عالم التاريخ الطبيعي الأميركي جون موير "تعالوا إلى الغابات، فهي موطن الراحة والسكون". ولم يكن ذلك غريباً، نظرا لأن موير الذي عاش في القرن الـ 19 كان واحداً من أوائل من دعوا إلى ارتياد الحدائق والمتنزهات العامة في الولايات المتحدة. وقضى موير جانباً كبيراً من حياته في استكشاف منطقة يوسَمتي ذات الحياة النباتية المزدهرة في بلاده وكذلك سلسلة جبال سييرا نيفادا، وكتب بغزارة عن إيمانه بدور الطبيعة في إثراء الأرواح والأبدان، قائلاً: "الجميع يحتاج إلى الجمال بقدر احتياجه لرغيف الخبز؛ إلى بقاعٍ تشهد لهوه وصلاته كذلك، حيث يمكن للطبيعة أن تضمد الجروح، وتهب القوة للجسد والروح".



على أي حال، يبدو أن موير اكتشف شيئاً مهماً بالفعل، فهناك أدلةٌ متزايدةٌ تفيد بأن قضاء الانسان جانباً من وقته بين ربوع الطبيعة يجعله أكثر صحة وسعادة.



ورغم أن ذلك يندرج في إطار ما يشعر به الكثيرون غريزياً؛ فإن طبيعة الحياة الحالية تجعلنا مشغولين بأعمالنا، ومُشتتين بفعل التكنولوجيا، ونعيش على الأغلب في مناطق حضرية بعيداً عن البقاع البرية. كما أننا لا نخرج إلى المناطق المفتوحة كثيراً، فالأميركي العادي يقضي - على سبيل المثال - 90 في المئة تقريباً من وقته بين الجدران وفي الأماكن المغلقة. لكن ما الذي يمكن أن نستفيده إذا ما خصصنا ساعةً يومياً للتجول في الهواء الطلق؟ وهل يشكل المكان الذي سنذهب إليه في هذه الحالة فارقاً؟ وما هي قيمة أن نستقطع وقتاً خلال يوم العمل المشحون للتجول خارج المبنى الذي يعمل كلٌ منّا فيه؟



ما الذي تفيدك به الطبيعة؟



هناك فوائد كثيرة لتجولك في الهواء الطلق. فبدايةً سيتطلب منك ذلك أن تنهض وتتحرك، وهو أمرٌ مفيدٌ إذا كان الجانب الأكبر من يومك يشمل جلوسك أمام شاشة هذا الجهاز أو ذاك. وتظهر الأبحاث أن الحصول على فترات راحةٍ قصيرةٍ، يمكن أن يعزز قدرتك على الانخراط في العمل والتفاعل معه، وأن قضاء مثل هذه الراحات السريعة في ظل ضوءٍ طبيعيٍ سيمنحك جرعةً من فيتامين "د".



وبالتالي، فإن الأمر إيجابيٌ للغاية حتى الآن. بجانب ذلك، أفادت دراساتٌ متزايدةٌ - أُجريت للمقارنة بين ردود فعل المرء خلال وجوده في بيئاتٍ حضريةٍ وتلك التي تصدر عنه وهو وسط الطبيعة - بأن طبيعة بيئة الهواء الطلق التي ينشدها المرء تؤثر كذلك، إذ يكون لتجوله وسط المساحات الخضراء وتحت السماء الزرقاء الصافية تأثيرٌ إيجابيٌ أفضل عليه، مقارنة بوجوده في الشوارع المزدحمة بالمدن.



وتقول ليزا نيسبِت، أستاذ مساعد في قسم علم النفس بجامعة ترنت الكندية، إن الأبحاث تشير بوجهٍ عام إلى أن استجابات الناس وردود فعلهم تتسم بقدرٍ أقل من التوتر "عندما يكونون في بيئة الطبيعة"، مُضيفةً: "عندما تكون وسط الطبيعة، ينخفض ضغط دمك، ويكون تغير معدل ضربات القلب لديك في حالةٍ أفضل، ويتحسن مزاجك". وتضيف: "هناك كذلك الكثير من الدراسات التي تُجرى بشأن فوائد وجود الانسان وسط الطبيعة وتأثير ذلك على سعادته وأدائه لوظائفه المعرفية. فالناس يكونون أكثر سعادة - عامةً - وهم وسط الطبيعة. ولأن السعادة هذه تشكل مفهوماً واسع النطاق للغاية، فإننا نقيس أشياء مثل العواطف الإيجابية أو السلبية التي يُكِنها المرء ومدى إحساسه بالحيوية وتجدد النشاط (بسبب وجوده في ربوع الطبيعة) فضلاً عن مدى رضاه عن حياته". وتشير إلى أن "انغماس الناس في وسط الطبيعة، حتى إذا كان ذلك في بيئاتٍ حضرية، يجعلهم يميلون لأن يكون لديهم قدرٌ أكبر من الحيوية والمشاعر الإيجابية، مُقارنةً بما يشعرون به وهم في أماكن مغلقة".



ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، تكتسب فكرة أننا نجني فوائد من وجودنا وسط ربوع الطبيعة زخماً وقبولاً. ففي البداية، ظهرت "فرضية بيوفيليا"، وهي نظريةٌ تفيد بأن لدى البشر رغبة فطرية في التواصل مع الطبيعة. ثم أعقب ذلك ظهور مفهوم يابانيٍ يُعرف بـ "شينين يوكو"، ويتلخص في أن "امتصاصك لأجواء الغابات وهوائها يمكن أن يفيد صحتك". ومنذ بلورة هذا المفهوم، حدد الباحثون المعنيون به مجموعةً كبيرةً من الفوائد الفسيولوجية والنفسية الناجمة عن تبنيه والمضي على دربه.



وفي الوقت ذاته، تشير دراساتٌ أُجريت على مستوى العالم إلى أن قضاءك وقتاً بين أرجاء الطبيعة، يمكن أن يؤدي - مثلاً - إلى استعادتك القدرة على التركيز، وتعزيز قدراتك الابتكارية والابداعية، وتقليص مخاطر إصابتك بالاكتئاب، بل وحتى المساعدة على إطالة العمر.



وبطبيعة الحال، يعيش الكثيرون منّا في مدنٍ لا توجد فيها إمكانية الوصول بسهولة إلى غابات. لكن نيسبِت تقول إن الأمر لا يتطلب بالضرورة وجود غابة، وذلك في ضوء وجود الكثير من الدراسات التي أظهرت أن للمساحات الخضراء في المدن تأثيراتٍ إيجابيةً.


k

جرعة الدقائق الخمس



وربما يتوجب علينا هنا الاطلاع على رؤية جو بارتون، باحثةٌ بكلية العلوم الرياضية وعلوم التدريبات وإعادة التأهيل بجامعة إسيكس البريطانية، التي تعمل فيما يُعرف بمجال "التدريب الأخضر"، الذي يشير إلى أن ممارسة المرء لنشاطٍ وسط الطبيعة يجلب له فوائد صحية. وفي إحدى الدراسات، بحثت بارتون مقدار "الجرعة" التي يحتاجها المرء من التفاعل مع الطبيعة لكي يحصل على "دفعةٍ" تفيد صحته النفسية والذهنية.



ورغم أنك قد تفترض أن الفوائد تزيد كلما طالت مدة هذا التفاعل، فإن بارتون كشفت من خلال الدراسة التي شملت 1252 شخصاً انخرطوا في أنشطة مثل المشي والبستنة، أن التحسن الأكبر على صعيد أمورٍ مثل الحالة المزاجية وتقدير الذات حدث في الدقائق الخمس الأولى من "التعرض للطبيعة". وتقول: "رأينا بوضوح تأثيراتً إيجابيةً طوال أوقات (التعرض للطبيعة)، لكن أهمها كانت في الدقائق الخمس هذه؛ فقط عندما تولي اهتمامك بمسألة الصحة النفسية".



وترى هذه الباحثة أن حدوث تعزيزٍ بوتيرةٍ متسارعةٍ لهذا الجانب، ربما ينجم عن انتقال الإنسان إلى بيئةٍ خضراء، وينبع كذلك من الطريقة التي تساعدنا بها الطبيعة، على التحول مما يُعرف بـ "الانتباه الاختياري" الذي يتطلب تركيزاً وطاقةً إلى "الانتباه اللا إرادي" الذي لا يستلزم سوى بذل الحد الأدنى من الجهد، ما يسمح لنا بأن نتعافى من أي إنهاك عقلي أو ذهني. وتقول: "التعرض للطبيعة مفيدٌ بحق في تسهيل حدوث هذه التغييرات بسرعةٍ بالغة".



ووجدت بارتون أن نتائج ممارسة هذا النشاط في ربوع الطبيعة، لا تتأثر بما إذا كان المرء قد انخرط فيه في منطقة خضراء حضريةٍ أو ريفيةٍ أو بين الغابات. كما اكتشفت أن وجود مسطحاتٍ مائيةٍ يُحدث تأثيراً إيجابياً أكبر. أما بالنسبة لسكان المدن، فيمكن أن يشكل التجول لفترةٍ قصيرةٍ في متنزهٍ قريبٍ من المنزل خياراً لهم، حال عدم تمكنهم من الوصول إلى منطقةٍ ريفيةٍ للقيام بذلك.



وقد تكون الأنشطة السابق ذكرها مفيدةً كذلك لزيادة معدلات الإنتاجية. وقد أظهرت نتائج دراسةٍ أُجريت في فنلندا - لبحث كيف يمكن أن يفضي حصول العمال على ساعةٍ للغداء إلى مساعدتهم على استعادة نشاطهم والتخلص من ضغوط العمل - أن القيام بجولةٍ خاطفةٍ بين ربوع الطبيعة يمكن أن يُحسن الأداء الوظيفي.



وجرت الدراسة على مدار أسبوعين في فصليْ الربيع والخريف. وقسّم الباحثون أفراد العينة فيها إلى ثلاث مجموعات؛ إحداها مجموعة واصلت الحصول على فترة الراحة للغداء كالمعتاد، بينما طُلِبَ من أفراد المجموعة الثانية التجول لمدة 15 دقيقة في أحد المتنزهات، ومن أفراد المجموعة الثالثة الانخراط في تمارين استرخاء في أماكن مغلقة. وقد أفضت الاختبارات التي أُجريت في الخريف - في سياق تلك الدراسة - إلى نتائج مدهشةٍ ومثيرةٍ للاهتمام.



فبحسب كاليفي كوربيلا، أستاذ علم النفس في جامعة تامبره الفنلندية، كان من المدهش والمفاجئ بالنسبة للباحثين اكتشاف أن جولات المشي في المتنزه كانت فعالةً ومفيدةً على نحوٍ مماثل لتمارين الاسترخاء. كما أن المجموعة التي يمشي أفرادها في المتنزه، شعرت بقدرٍ أكبر من الاسترخاء والانفصال عن شواغل العمل، واستمتعت أكثر بفترة الراحة الخاصة بها. أما تلك التي مارست تمارين الاسترخاء في مكانٍ مغلقٍ فلم تشعر - كما يقول كوربيلا - سوى "بزيادة في إحساسها بالاسترخاء".



وأظهرت المجموعتان أن أفرادهما تحلوا بقدرٍ أعلى من التركيز، وشعروا بإجهادٍ أقل في فترة ما بعد الظهر. وخَلُصَتْ الدراسة إلى أن كلاً من التجول في المتنزهات وممارسة تمارين الاسترخاء قد "يساعد العاملين على إعادة التزود بالموارد اللازمة لأداء المهام الوظيفية على نحوٍ جيدٍ خلال يوم العمل".


k



 



التقليل من فاعلية الطبيعة.



لكن يبدو أن هناك من لا يعلم حتى الآن بما ينطوي عليه التفاعل مع الطبيعة من فوائد. فقد أظهرت دراسةٌ استقصائيةٌ أُجريت مؤخراً في الولايات المتحدة أن 35 في المئة من موظفي المكاتب لا يقضون سوى 15 دقيقة في الهواء الطلق يومياً.



وتشير ليزا نيسبِت إلى أن السبب في ذلك قد يعود جزئياً إلى فشلنا في تقدير مدى فوائد الطبيعة بالنسبة لنا. وأجرت هذه الباحثة دراسةً في جامعة كارلتون بمدينة أوتاوا الكندية، التي يستخدم طلابها أنفاقاً للمرور عبر الحرم الجامعي في الشتاء. وقد طُلِبَ من أفراد العينة السير لفترة قصيرةٍ، إما من خلال الأنفاق أو عبر طريقٍ آخر خارجها، يمر في جزءٍ منها بمحاذاة قناةٍ مائية.



وتقول نيسبِت إنها وزملاؤها الباحثون وجدوا أن الناس كانوا "أكثر سعادةً عندما ساروا في الهواء الطلق، حتى وإن كان ذلك لمدة 15 دقيقة". لكن ذلك أثار سؤالاً بشأن السبب الذي حدا بهؤلاء لعدم القيام بنشاطٍ مثل هذا لوقتٍ أطول، ولماذا ظل الناس يستخدمون الأنفاق في ظل طقسٍ أقل برودة، رغم أنها ليست أقصر من البدائل الأخرى؟ ولهذا سعت الباحثة إلى استكشاف التوقعات التي يُكِنها الناس في داخلهم لما سيجلبه لهم المشي في بيئاتٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ، إذ طلبت منهم توقع ما الذي سيشعرون به في مثل هذه الحالات.



وتقول نيسبِت: "عندما سأل الباحثون الناس بعد انتهاء جولة السير عما شعروا به خلالها، قلل هؤلاء من مدى السعادة التي شعروا بها عندما كانوا يسيرون في الهواء الطلق. بعبارةٍ أخرى، اعتقد أولئك الناس أن الأمر سيكون جيداً، لكن اتضح أنه كان أفضل بشكلٍ كبير مما كانوا يتوقعون".



وترى الباحثة أن شروعنا في استكشاف الطبيعة سيجعل ذلك - وبسرعة - جزءاً مهماً من حياة كلٍ منّا.


يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

9 آذار 2019 00:00