كتب خالد صالح:
إذا كنت تتحدث إلى رجل بلغة يفهمها، يذهب كلامك الى رأسه، أما إذا كنت تتحدث معه في لغته، يذهب كلامك إلى قلبه.
لم يستطع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على مدى عامين ونيف من تسجيل "نقاط قوة" في الوسط السني، وبقي أسير هواجسه وأحلامه بالتحوّل من رئيس "حزب مسيحي" إلى "زعامة وطنية" تضعه في مصاف القادة الكبار من الطائفة المسيحية الكريمة الذين وسموا تاريخ لبنان بأسمائهم .
ثمّة " قطبة " في جبين سمير جعجع لم تنفع معها عمليات التجميل التي أخضع نفسه لمفاعيلها على مدى ست عشر سنة، ففشل في إخفائها، ولم يكن بمقدور المساحيق السياسية والطائفية والوطنية المغلّفة بالمذهبية أن تستر "سوأة" معالمها البادية عليه وعلى هدوئه المصطنع طورًا والخاضع لاشكاليات التقليد طورًا آخر، وسقطت أولى القواعد لديه لاعتقاده بقدرته على تحويل الآلام إلى طاقة إيجابية .
وثمة في شخصيته أبعاد ثلاثية تمركزت في عقله الباطني، رسم - جرّاء تغلغلها فيه - طريقَهُ نحو ساديةٍ بأناة، وتمرّدٍ بهدوء، وحكمةٍ بكثير من الصبر، فالغاية عنده ليست فقط تبرّرها الوسيلة، بل الغاية عنده محطة دائمة حتى المآل النهائي لها ولو بذل في سبيلها ألف وسيلة ووسيلة .
سمير جعجع المقاتل وزعيم الميليشيا في زمن الحرب، والمعتكف اللاهوتي السريالي في صومعة سجنه، والباحث عن ربوة يتسلّقها لتعويض ذاته عمّا دفعه من أثمان في سنوات " الخندق والمتراس" أو في سنوات " الزنزانة "، والتي خرج منها في رحلة البحث الشاقة عن القيمة المضافة لذاته، هذا الخروج الذي ترك في عنقه "جميلة"، وقد وضع منذ 26 تموز 2005 مسارًا مرسومًا بدقة متناهية وبعناية شديدة وبحرفية "الجوهرجي" سبيلا للخروج منها ليقينه أن ردّها بمثلها أو أكثر يحتاج معجزة .
الضرورات تبيح المحظورات، وضرورة جعجع جعلته يقبل "على مضض" الموقع الثاني في قيادة "14 آذار" بعد زعيم المستقبل سعد الحريري، رغم أن الأخير أخلى له مكانًا بجانبه في مقصورة القيادة، لكن ذلك لم يشبع رؤاه ولا سعيه الدؤوب لإزاحة "الجميلة" عن تاريخه، جميلة "العفو العام" الذي فتح له باب السجن، ووضعه زعيمًا، وطوال السنوات الماضية لم يتمكن من التخلص من عبء هذا الأمر، فزعامة الحريري "الوطنية" عمومًا و "السنّيّة" بشكل أدق تتقدّم على زعامته بأشواط، حتى وإن حاولَ حجب شمس الحقيقة بإصبع الوطنية الملوّنة التي يرفعها .
أدرك جعجع أن البحث عن "الموقع" المفقود كـ "زعيم وطني" هو كرحلة البحث عن "أتلنتيس" القارة التي ابتلعها المحيط، تاريخه "الميليشياوي" ملتصق به كظله مهما مارس طوباويته، وأن الزعامة المشتهاة لن تُقدّم له على طبق من فضة، وسط الفسيفساء اللبنانية وموزاييك السياسة فيها، هو يدرك أن الطريق لهذا يحتاج أمرين اثنين، كتلة نيابية مسيحية تحتل المرتبة الأولى في طائفته، ووصوله إلى قصر بعبدا رئيسًا للجمهورية اللبنانية .
ارتدى جعجع ثوب "الوطنية" الجامعة فبدا "فضفاضًا" عليه كثيرًا، فعاد إلى قوقعته متحدثًا بـ "مسيحيته"، كان ينظرُ بدهشة إلى زعامة الحريري على أنها "عقبة كأداء" أمام أحلامه الوردية، وأن "الكاريزما" والجاذبية والعصامية والابتسامة المزروعة زرعًا على محيّاه، لن تؤتي أُكلُها، هو يريد قاعدة جماهيرية واسعة تؤمّن له ارتقاء الدرج نحو القمة، وأمام التباينات المذهبية في لبنان، والشوارع المقفلة في وجهه، اعتقد أنه بابعاد الحريري من "كادر الصورة" سيجد نفسه متصدرًا المشهد السياسي لدى "الأكثرية السنّية"، باعتقاده أنهم يبحثون عن قيادة قوية في وجه حزب الله ومشروعه .
لم تأتِ حسابات حقل جعجع قريبة من البيدر اللبناني، ورفعه لشعارات ممجوجة ركوبًا على ظهر المواجهة السياسية مع حزب الله والحراك الشعبي، لم تُطوّب له إلا الفتات من "شارع سني عريض"، أما الغالبية الساحقة من هذا الشارع فجزءٌ منها يراه قاتلًا لرئيس حكومة سابق، والجزء الآخر وهو الأوسع يراه قد غدر بـ "قائده" رغم ما قدم له من امتيازات داخلية وخارجية، أليس احتضانه سنيًا في مرحلةِ ما بعد خروجهِ من السجن فتح له الباب على مصراعيه لقبوله عربيًا وتحديدًا سعوديًا ؟، حالة أربكت تصرفاته فلم يأكل العنب ولم يتخلّص من الناطور ..
لم يستطع جعجع احداث الخرق المرتجى في بيئة الحريري، على العكس تمامًا فإن هذه البيئة إلتفّت حول قيادتها كما لم يحصل من قبل، ولم ينجح في إيصال رؤيته إلى هذا الشارع، فأن يتحوّل بين عشية وضحاها إلى "قدّيس" دعسة ناقصة مهما بذل من جهود كي يصبح أفضل، لأن التسامح الحقيقي يستلزم نسيان الماضي كله، وهذا ما لم ينله جعجع، بل ساهم في محطات كثيرة بـ "إزالة الغبار" عن تاريخ محفوظ له بـ "الحفظ والصون" .
من الأعراض التي أصابت جعجع بمقتل، الإعجاب بالنفس والتمسك برؤيته وعدم الاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، فافتقد سمة القيادة التي تنطلق من حسن الإنصات إلى الآخرين، فصورة "القصر الجمهوري" لا تفارق خياله، لكن الطريق من معراب إلى بعبدا ماتزال طويلة جدًا، صحيح أنه رجل أكثر من مخضرم وشهدت حياته تحوّلات كانت أحياناً جذرية ومفصلية نقلته من مقاتل شرس يؤمن بالسلاح وسيلة لغاياته، إلى رجل يمتهن السياسة بحرفية، لكن الطريق الذي يسلكها لن تؤدي به إلى مبتغاه .
بعدما كان جعجع يبحث عن وسيلة تحطّ بها رحاله في قصر بعبدا، وجد نفسه يبحث عن وسيلة تعيد له مكانته في "البيئة السنّيّة"، يخاطبها ليل نهار، ويتودد إليها صبح مساء، عسى ولعل، ويبذل وكوادر حزبه وكتلته كل الوسائل لأجل هذا، لكن سبق السيف العذل، وأقفلت في وجهه السبل، وبعد 17 تشرين الأول 2019 بات في حكم المؤكد أن سمير جعجع لن يصبح "مانديلا" لبنان .
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.