كتب خالد صالح:
الزمان : الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخامسة والخمسون ظهرًا من تاريخ 14 شباط 2005
المكان : أمام فندق السان جورج في بيروت
الحدث : بداية معركة أبدية بين "الزمن" و .. "رفيق الحريري".
نعدّ الأيام، نُحصي الأنفاس، نتوغّلُ في أعماق الذاكرة، ننبشُ من خباياها ما لاطاقة لنا على كتمانه، نتوهُ في دهاليز الكوابيس بعدما أصبحنا نواطيرَ الليل وحرّاسَ العتمة، عندما إهتزت الأرضُ تحت أقدامنا باكيةً، آخر "فرسان الوطنية" ترجّل .. واغبرّ أفق الوطن ..
كان "الزمن" يُراقُبُه، يُسجّلُ أفعالَه، يحفظُ أسلوبَه وأنماطَه، فـ "رفيق الحريري" ليس أيّ اسم، ولا أيّ رمز، ولا كمية من "الخصال" لا تُعد ولا تُحصى، كان آتيًا من "مقلع" الشهامة الوطنية، من تلك السكينة المتهادية بين أشجار الليمون حيث "الشموخ" المترفّع، والأصالة المتجذرة، والإرادة المتمردة على كلّ تخاذلٍ وتقاعسٍ وهوان .
كان "الزمن" يُدركُ أن المواجهة مع "رفيق الحريري" ليست بالمواجهة التقليدية المحسومة سلفًا لصالحه، فيقذف به في غياهب النسيان، فهذا القادمُ من "صحراءِ العرب" وعلى وجهه بدت سُحنة سمراء طبعتها الشمس بقساوتها، وعلى جبهته خطوط حفرها "العَرق" المجبول بـ "الشرف"، كان يعلمُ أن هذا الرجلُ قد أدرك جيدًا ما معنى أن تحملَ صفة "رجل محترم".
شَعَرَ "الزمن" أن المعركة لـ "طيّ اسم" كاسم "رفيق الحريري" ستحتاجُ منه جهودًا مضاعفة هذا إن بلغ مراده، فهذا "الرجلُ المحترم" احترمَ قناعاته واحترمَ الآخرين بفعل تلك القناعات، أحبّه البعضُ وخاصَمه البعض، لكنه أعطى لكلّ شيءٍ في هذا الوطن الصغير "نكهة فريدة"، وأبقى للسياسة مقامَها واحترامَها ورونقَها الخالص في زمن الفجور والعربدة والتشبيح والزندقة.
لم يعتقد "الزمن" أن طينة "رفيق الحريري" استثنائية، فسقط في المحظور واستسلم له، عندما اكتشف أنّ له ضدّه وله مؤيده، وفي الحالتين يمتلكُ منطقًا فاخرًا وخيارًا سويًا لا يُشبه إلا نفسه، سخّر المسافة فطواها ونأى بنفسه عن هرطقات العابثين، أدرك "الزمن" أن هذا المارد استوطنَ بواطنَ العقول وثنايا الأفئدة، وباتَ مثالًا يُحتذى في الأدب والتهذيب واللياقة والكياسة، والفطنة المدهشة، لأنه إن صَاحَبَ وضعَ قطارَ آماله على سكةِ الوضوح والشفافية والتجرّد، وإن خاصَمَ، خاصَمَ بأدبٍ ورفعةٍ ونزاهةٍ من دون إسفاف.
استسلمَ "الزمن" أمام حضور "رفيق الحريري" بعدما أيقنَ أن الأمانة والصدق واللباقة ليست أفضل سياسة فحسب، بل هي السياسة الوحيدة التي تجعلُ من "الرجال العظام" أسطورةً حيّة في وجدان الناس، يصعبُ عليه اختزالهم أو شطبهم من المعادلات، هذه السياسة التي فيها من الحلم والحكمة، من الجرأة والشجاعة، من الرؤيا والتحليل، ما يجعلُها في "محراب الوطن" تُشبه إلى حدّ بعيد "صلاة" التخطيط السليم لخلق مساحاتٍ حضارية للوطن والمواطن، قادرة على تحويل هذا الوطن أنموذجًا ورسالة وتنوّعًا زاهيًا يجعلُ من الواقع أكثر انسيابية، نحو جعل لبنان "محجّة" للعالم أجمع.
كثيرةٌ هي الأسماءُ التي تدحرجت على مقصلة "الزمن" فغيّبها النسيان، لكنه اغتاظ من اسم "رفيق الحريري" كيف بقي يلتمع في العيون كـ "رجل دولة" من الطراز الرفيع، هذا "المارد" المحاورُ بديموقراطية، الواضحُ في رؤيته، النيّرُ في أفكاره، الصريحُ في عباراته، الممتلك بثقة المؤمن القدرة على تزيين الحروف بالنقاط المناسبة، المتقبل للرأي الآخر حتى لو كان مهاجمًا له، المتحدّث بأسلوب الفطن الذي يجعل فكرته تتغلغلُ في العقول من دون إسهاب أو استغراق في الشرح والتنظير، البعيد كل البعد عن "اللف والدوران"، المحترم جدّا حتى مع معارضيه.
راهنَ "الزمن" أن دخول "رفيق الحريري" عالمَ السياسة في الزمن الخطأ، سيضعُ بين يديه "الأدوات اللازمة" لمسح اسمه وقت يشاء، فالجنونُ الذي يعصف بـ "لبنان" له مفعول السّحر في تهميش أصحاب الرؤى والعقول، وأن العاطفة الطائفية التي تضربُ أساسات البلد ستقفُ سدًّا منيعًا أمام تحليق "أجنحة الإعتدال"، وأن لعبة المصالح التي تجتمعُ حولَ طاولة واحدة ستبدّد كل القيم والمبادىء، لكن "الزمن" لم يتوقّع على الإطلاق قدرة هذا "الرفيق" على نسفِ كلّ العقائد البالية والأساليب الهشّة الضيّقة، وقدرته على تحقيق "النصر المبين" في كل جولة من حربه عليه.
لم يترك "الزمن" وسيلة إلا وسلكَ نهجها في سبيل تحقيق نصر ما على "رفيق الحريري"، حتى في لحظةٍ تاريخية ظنّ بها أن الفرصة باتت سانحة للإنقضاض عليه، يُعاونه رهطٌ كثير لم تربطه وشائج المودة به من الانتهازيين والوصوليين ودعاة الوطنية المزيّفة المتلوّنة بأصباغ الحقد والغل الدفين، وقع "الزمن" مجدّدًا في "سحر" هذا العملاق وطأطأ رأسه مهزومًا ليكتبَ في نهاية الجولة نصرًا مؤزرًا لم يتوقعوه، وعودة من الباب العريض لم يريدوها.
كان "الزمن" يقرأ في كُتُبِ كلّ من استاء من "رفيق الحريري" ومن "وسطيته الفاخرة" التي تؤمنُ بذاتها، فعبثَ بعقول الضعفاء والجبناء ليكيدوا له، حتى اجتهدوا في نسج الأكاذيب والاشاعات، لكن رياحَ "الرفيق" العابقة بالسّيادة والاستقلال والقرار الحرّ التي بدأت تهب على لبنان، كانت رياحًا تحمل لِقاح الأملِ لهذا الوطن، وأنه مقبلٌ لامحالة على تسطير اسمه بأحرف من ذهب في سجلات تاريخ البلد، الذي أعاد إعماره وأعاد صوغ اسم لبنان في المحافل الدولية، سيكون الاسم الذي سيعيدُ له استقلاله "المسلوب عنوة"، وسيكونُ بلا منازعٍ "زعيم الاستقلال الثاني".
انتهز "الزمن" سودواية الفكر والنوايا لدى البعض، وأمام عجزه عن النيل من "رفيق الحريري" حاضرًا، جرّب مع فئة باغية ضالة ومضلّة تغييب "الجسد"، ظنًا بهذا الفعل قد يُحقق النصر في الجولة الأخيرة، فلا مناصَ من وأد "الحلم" قبل أن يستكمل المسيرة ويتحوّل إلى "رافعة عملاقة" تدفع البلاد للارتقاءِ نحو العُلى والمجد، فيصبحَ "عصيًّا" عليه، ففتحوا عليه أبواقهم الصغار و "هلافيتهم" للنيل من هامته البارزة وقامته الشامخة، فسقطوا في جريرة أعمالهم الخبيثة، وأشيرَ لهم بالبنان صراحة بالتجرؤ على "الفعل المخيف" .. اغتيال رفيق الحريري ..
ظنّ "الزمن" أنه انتصر أخيرًا وها هو خصمه "العظيم" قد وُرِيَ في الثرى وارتاح من عناء المواجهات الخاسرة معه، لكن "رفيق الحريري" ناداه من قبره، نجحتَ أنت و"الأوباش" من فرقة الإعدام بشطبي "جسدًا"، لكنك مهزومٌ مهزوم، أمام اسمي الذي سيظل يقض المضاجع، وأمام وريثي الذي يحمل الراية على درب جلجلة الصدق والنزاهة والأمانة ..
سبع عشرة سنة مرّت .. والزمنُ يفشل دائما في طي صفحات "رفيق الحريري" .. سبع عشرة سنة كان يعتقد أن غياب الجسد هو أول الطريق في رحلة النسيان .. ولكن "هيهات" ..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.