في أدبياتنا اليومية مَثَل شعبي لبناني هو الأكثر تداولاً : "الحق على الطليان". هذا المَثَل العابر للمناطق والطوائف والحدود أيضا وصولا الى آخر بقعة في دنيا العرب، يرمز الى شغف التهرّب من المسؤولية ورميها على الآخرين. هكذا درجت العادة في بيروت وفي عواصم عربية كثيرة اعتادت على رمي مسؤولية أي فشل على الآخرين، من دون التجرّؤ على الاعتراف بخطأ واحد أو إجراء نقد ذاتي يحدّد المسؤوليات بموضوعية.
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة واحدٌ من ضحايا هذه الثقافة المتفشّية في المؤسسة السياسية اللبنانية. رغم تثبيت سعر صرف الدولار أكثر من ربع قرن، وحصوله على عشرات الجوائز العالمية بوصفه أحد أنجح حكام المصارف المركزية في العالم، وصولا الى تمكّنه من هزيمة "السوق السوداء"، منذ شهرين، بمجرّد توفّر جزء محدود من العملات الصعبة، استفاقت نظرية "الحق عالطليان" لتُلصِق كل موبقات المؤسسة السياسية برياض سلامة.
كل المكوّنات السياسية التي عاثت في البلاد فساداً وتعطيلاً وشعبويةً ولم تأخذ بملاحظات الحاكم، وآخرها حول سلسلة الرتب والرواتب، اجتمعت على تحميل سلامة المسؤولية، حتى إذا فشلت في إيجاد دليل واحد يُدينه ضلّلت الرأي العام بشائعات عن دعاوى دوليّة ضدّه، سرعان ما تبيّن أنها مجرّد "إخبارات" صُنِعت في غرف سوداء بقصد تشويه السّمعة ليبقى "الحق عالطليان".
لم يقرّ أي من المكوّنات السياسية المُشار إليها بإلزام البرلمان حاكم مصرف لبنان بتمويل العجز الدائم في الموازنات المتعاقبة ، وبرفض هذا البعض المستدام للإصلاحات المطلوبة في قطاع الكهرباء، كإنشاء الهيئة الناظمة، والذي يُكلّف هدراً سنوياً بقيمة ملياري دولار حتّى بلغت الكلفة أكثر من خمسين ملياراً (نصف الدين العام). كما لم يقر بعض فروع "الثورة" الآتية من أحضان الأحزاب الشمولية بما جنته أيديها عندما اضطرّت المصارف الى الإقفال لمدة أسبوعين (العام 2019)، قبل أن يكتمل نصاب الإنهيار مع تخلّف حكومة حسان دياب عن تسديد سندات "اليوروبوندز" الذي يعني عملياً إعلان إفلاس لبنان ، لتُحرم الجمهورية من العملات الصعبة ويُطلق العنان لانهيار الليرة.
وأكثر وأكثر تجاهل بعض هذه المكونات، وهو يشحذ القضاء والقوى الامنية لتوقيف رياض سلامة، أنه شريك كامل في قرارات مصرف لبنان من خلال ممثليه في المجلس المركزي الذين تناوبوا على "بصم" القرار تلوَ الآخر بدون تحفّظ. كما تجاهل التقدير الإستثنائي لـ"مهنية" حاكم مصرف لبنان من جانب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أوج المفاوضات الجارية بين الحكومة اللبنانية والصندوق في إطار "خطة التعافي".
ولعلّ كل هؤلاء تجاهلوا عن سابق تصوّر وتصميم كل الحقائق والأرقام والحيثيات التي تدحض مزاعمهم المتناسلة ضدّ الحاكم خصوصاً مع انطلاق حملاتهم الإنتخابية استعداداً للاستحقاق النيابي المقبل، وقد غرقت في مستنقعات الشعبوية التي فاقت مثيلاتها في كل أرجاء المعمورة.
مثلُه مثل كثيرين سبقوه، يدفع رياض سلامة ضريبة النجاح والإنجاز، تماماً كما يدفع اللبنانيون ثمن اختيار ممثلين لهم لا يتقنون إلاّ الفشل وهدر الكفاءات والمليارات ورمي المسؤولية على الآخرين ، على أمل ألاّ يطال فشلهم الميمون أيضاً.. احتياطي الذهب.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.