23 حزيران 2022 | 14:22

أخبار لبنان

خسرنا جورج ضومط

خسرنا جورج ضومط

بطرس لبكي


في هذه الأيام التي تتوالى فيها خسائرنا المادية وخاصة البشرية، تأتينا خسارة جورج ضومط الشخصية الفذة والمتواضعة في آن : المناضل الشجاع والاقتصادي والإداري الاستثنائي الذي لا يحب البروز. لذلك فلم يكن شخصية معروفة الا في الحلقات المحيطة به مهنياً وعائلياً واجتماعياً وسياسياً. فتوجب علينا التعريف عنه بمناسبة وفاته في 17 حزيران 2022 ليأخذ الرجل حقه في ذاكرة الوطن والمجتمع.

من مواليد بلدة "مزرعة يشوع" (المتن) عام 1942 ابن مغترب لبناني في السنغال، عاش في المهجر فترة دراسته الجامعية الأولى حيث نال إجازة في العلوم الفيزيائية من جامعة "داكار"، وشارك في الحركة الطالبية هناك مع الطلاب الوطنيين في السنغال وسائر الدول الافريقية. وعمل في دعم القضايا العربية هناك وبخاصة قضية فلسطين التي عاد اشتعالها منذ عام 1967.

عاد جورج ضومط الى لبنان وعمل في مصرف لبنان مع متابعة دراسة العلوم الاقتصادية في جامعة الروح القديس يوسف في بيروت. وقد شارك عام 1968 بتأسيس "حركة الوعي" في مؤتمر ميفوق وفي قيادة النضال الطلابي النقابي في الجامعة اللبنانية ثم النضال الوطني، وكان في هذه المجالات كما في كل حياته انساناً شجاعاً، ذو ثقافة منفتحة على الغرب دون الخروج من جذوره العربية المشرقية.

شارك في النضالات الطلابية والوطنية في النصف الأول من السبعينات في الإطار الجامعي، وكان حريصاً على الدفاع عن الحريات والحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما كان شديد الحرص على السيادة الوطنية في اطار التضامن العربي خدمة للقضايا المشتركة وعلى راسها قضية شعب فلسطين.

من الناحية المهنية، عمل بكفآة ونزاهة في مصرف لبنان مما اهله الدخول الى لجنة الرقابة على المصارف في منتصف السبعينات. وكانت هذه اللجنة منطلقة منذ سنوات لارشاد القطاع المصرفي ومراقبته خاصة بعد ازمتي انترا وحرب حزيران 1967وتداعياتهما.

في السنوات الأولى من حرب 1975-1990 اقترن بزميلته في مصرف لبنان سوزان زيادة عواد المجازة بالرياضيات والاحصاء ورزقا بثلاثة أولاد : مارك وجاد ومروان الذين تابعوا دراستهم الجامعية في مجالات إدارة الاعمال والعلوم المالية والمعلوماتية. وقد كان حائزا على تقدير رؤسائه في لجنة الرقابة وفي مصرف لبنان. فأرسل بمهمات عديدة الى الخارج وخاصة الى فرنسا للاطلاع على آخر مستجدات أنظمة المصارف التجارية والمصارف المركزية وأساليب المراقبة. وتسلم مسؤوليات دقيقة وخطيرة وخاصة من قبل الحاكم المرحوم الدكتور ادمون نعيم حيث ابدى كفاءة وشجاعة ملحوظتين وذلك في فترة حرجة بآخر الثمانينات.

ولدى تقاعده عام 2007 طلبت منه احدى المؤسسات المصرفية الكبرى المتخصصة في الاستثمارات المالية والتسليف الطويل الامد في بيروت تولي مسؤوليات قيادية في مجلس ادارتها لبضع سنوات. ثم ترك العمل المصرفي في مطلع السبعينات من العمر. وبعد ذلك لم تعد حالته الصحية تسمح له بالقيام بعمل يومي دائم فأسندت له بعض المهمات الاستشارية.

بموازاة عمله المهني طور جورج ضومط عمله النضالي في مجالات الشأن العام فكان من مؤسسي "الحركة الثقافية" في انطلياس ومن أبرز قيادييها وأشجعهم وانشطهم. كما كان من مؤسسي حركة "انتظارات الشباب" وغيرها من الحركات الوطنية والتوحيدية بالتعاون مع صديقه الحميم المرحوم الاب مارون عطالله.

تعرفت على جورج ضومط في مطلع حرب الـ75/90 في اطار عمل متعدد الأطراف : منهم الحزب الديمقراطي وحركة الوعي والجبهة الموحدة لراس بيروت، وذلك لبناء السلم الأهلي في لبنان ووئد الجذور المحلية للنزاع.

جمع هذا العمل اشخاص وتجمعات عديدة في عامي 1975 و1976 ومن طوائف ومناطق متنوعة واقام مؤتمرات وندوات تدعو الى نبذ الطائفية وتبني علمنة المجتمع كحل للصراعات. فقامت هذه المجموعات باجتماعات واسعة في برمانا ورأس بيروت وبكفيا ومناطق أخرى، كما قامت بحملة لشطب المذهب عن الهوية في مطلع 1976. وحاولت هذه المجموعات دعم حوار وتلاقي بين المرحومين كمال جنبلاط وبشير الجميل في حزيران 1976 بمساعدة من العلامة المرحوم الخوري يواكيم مبارك وغيره من الشخصيات الوطنية. بعد نهاية "حرب السنتين" (1975-1976)، تطورت العلاقة بيننا وطلب مني جورج ضومط اعداد تقرير اقتصادي لمؤتمر حركة الوعي. اعددت هذا التقرير رغم انني لم أكن عضواً في حركة الوعي بل صديقاً لها. وقد نشر ضمن الملف الذي صدر عن هذا المؤتمر.

ترسخ العمل المشترك بين الحزب الديمقراطي (ومن شخصياته البارزة المرحومين الوزيرين اميل بيطار وجوزف مغيزل وكذلك الأستاذ باسم الجسر والأستاذ سامي نصار) وحركة الوعي التي كانت تتمثل غالبا بالدكتور عصام خليفة وجورج ضومط وحركة لبنان الواحد ( وهي مجموعة من المستقلين منها الممثل رفعت طربيه وليلى القاضي وبطرس لبكي وغيرهم). وكان هناك تعاون لهذا الثلاثي (الحزب الديمقراطي وحركة الوعي وحركة لبنان الواحد) والجبهة الموحدة لراس بيروت (ومن ابرز من كان يشارك فيها المرحومين الدكتور الوزير نجيب أبو حيدر والدكتور منير شماعة وشارك معهم أيضا الوزير الدكتور سمير المقدسي وكذلك الكاتبة والباحثة ليلى القاضي). وكنا نجتمع اما في مركز الحزب الديمقراطي في شارع بدارو واما في مركز جبهة راس بيروت في شارع العرداتي في راس بيروت.

وكانت هذه التجمعات تصدر نشرة "لبنان الواحد". وإبرز كتابها جورج ضومط وليلى القاضي. وكانت هذه النشرة تتابع الوضع السياسي اللبناني ومحيطه العربي بمعلومات وتحليلات حاذقة برزت فيها كفاآت جورج ضومط التحليلية المميزة.

وايضاً ابتداءً من عام 1978 أصدرت هذه المجموعات سلسلة كراسات باسم "العلمانيون الديمقراطيون" عالجت اهم طروحات المتنازعين في الحرب (كنظرية "الطائفة الطبقة" و"العروبة العلمانية" و"التعددية الحضارية" وغيرها). وذلك من منظار ديمقراطي علماني لبناني مشرقي عربي.

وفي هذه الفترة (1978) تأسست "الحركة الثقافية انطلياس" التي كانت استمرار وتاقلم وتطور لـ"نادي الشراع" الناشط انطلاقاً من دير مار الياس، في انطلياس. وكان جورج ضومط من اركان لـ"نادي الشراع" ثم الحركة الثقافية. وقد قامت هذه الحركة منذ نشوؤها بنشاط ثقافي وتوعوي في محالات عدة : الادب والفن والنشر والموسيقى والاقتصاد والسياسة والمجتمع وغيرها من الميادين. وقد ساهمت في بلورة ثقافة وطنية جامعة لكل اللبنانيين بمشاربهم وطوائفهم ومناطقهم واهتماماتهم المختلفة. وقد تمكن هذا النشاط الدؤوب من جمع اشخاص من اتجاهات فكرية واجتماعية وسياسية ومهنية مختلفة للتعارف والحوار في قترة كانت تسود المجتمع اللبناني انقسامات فكرية وسياسية واجتماعية عميقة. ومن اهم منجزات هذه الحركة الثقافية المهرجان اللبناني السنوي للكتاب والمؤتمر السنوي الذي يتناول مواضيع أساسية للبنان في كل مرة ينعقد.

استمر جورج ضومط في المساهمة في قيادة هذا النشاط حتى أواخر الثمانينات أي نهاية الحرب، حيث دبت خلافات تنظيمية وسياسية في الحركة تسببت بانشقاقها وخروج جورج ضومط منها مع مجموعة كبيرة من الأعضاء والقيادات أسست ما سمي بـ: "لقاء الجزيرة".

كما تعاونا مع جورج ضومط في "المؤسسة اللبنانية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية" (ILDES) التي أسستها مجموعة من المثقفين والناشطين اللبنانيين (المرحوم إبراهيم شبلي، الدكتور خليل أبو رجيلي، جانين غصن وبطرس لبكي) في عام 1988 لمساعدة عودة المهجرين اللبنانيين الى أماكنهم الاصلية دعماً لوحدة المجتمع اللبناني والعيش المشترك وبقاء اللبنانيين في ارضهم. وذلك من خلال أنشطة عديدة في المجالات الصحية والتدريبية والخدمات الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والاعمار والإسكان والتشغيل والبنى التحتية الجماعية والحوار بين الأديان والحضارات.

ومنذ مطلع التسعينات كان جورج ضومط ناشطاً فعالاً في تأسيس وتطوير التيار الوطني الحر (بمسمياته السابقة واللاحقة) وذلك بشجاعة ملفتة في ظل ظروف الوصاية. واستمر في هذا النشاط بعد خروج الجيش السوري من لبنان، وذلك ضمن توجهاته الوطنية العلمانية الديمقراطية المنفتحة على المحيط المشرقي العربي.

على الصعيد الشخصي والعائلي تمكن جورج ضومط من تجديد وترميم وتوسيع بيته العائلي في "مزرعة يشوع" لإسكان اسر بنيه. لكنه لم يهنأ طويلاً بهذا البيت المجدد اذ بدأت عوارض مرض الباركنسون تظهر عليه الى ان قضت عليه مع مصائب صحية أخرى أدت الى وفاته في 17/6/2022.

بقي جورج ضومط حتى الأسابيع الأخيرة من حياته يطالبني اثناء زياراتي له واثناء مكالماتنا الهاتفية الطويلة، العمل لجمع الحركات العلمانية والديمقراطية والوطنية والمدنية في اطار تنسيقي للتغيير. ويكرر هذا الطلب لمجموعة من أصدقائه من قياديي هذه الحركات، ويكرر طلبه هذا ومتابعته في كل لقاء بيننا : فهم النضال الوطني رافقه حتى الرمق الأخير، على فراش الموت.

رحيل جورج ضومط خسارة متعددة الجوانب

1- تخسره اسرته : زوجته سوزان وأولاده مارك وجاد ومروان

2- تخسره بلدته التي احب : "مزرعة يشوع"

3- يخسره النظام المصرفي اللبناني ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف عنصراً اصلاحياً كفوءاً نشيطاً

4- تخسره "الحركة الثقافية" في انطلياس كما يخسره تجمعات "الجزيرة" و"انتظارات الشباب" وغيرها من الحركات الإصلاحية والتنويرية

5- يخسره التيار الوطني الحر والحالة العونية بشكل عام كأحد المناضلين الشجعان حينما كانت آلة القمع مستفرسة.

6- يخسره أصحاب ومحبي الرأي الحر الشجاع والذكي والعاملين للعلمانية والديمقراطية وللعروبة المشرقية الحديثة.

7- ويخسر لبنان احد اصفى والمع أبنائه ومحبيه والعاملين في عدة مجالات لبنائه في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية.

وأخسر انا إضافة الى كل ما سبق صديقاً صدوقاً ورفيق درب منذ ما يقارب نصف القرن.


يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

23 حزيران 2022 14:22