كتب خالد صالح:
حسنًا فعلَ الرّئيس الشّهيد رفيق الحريري عندما أصرَّ على رفعِ عبارة "لو دامت لغيركَ لما اتصلت إليك" على مدخلِ السّراي الحكومي الكبير بعد إعادة ترميمه على صورته الحالية، وذلك تطبيقًا للآية الكريمة "وتلكَ الأيامُ نُداولها بَينَ النّاس" .. في اقرارٍ علني أنّ على الحاكِم المسؤول أن يقتنعَ كليًا أن فترة وجودِه في موقعِ السّلطة موقّت وغير دائم ..
كانَ على الرّئيس الشهيد أن يرفعَ العبارة ذاتها على مدخلِ "القصر الجمهوري"، وهو الذي أعادَ ترميمَه بعد وصولِه إلى سدّة رئاسة الحكومة أواخر العام 1992، وتمّ افتتاحه بصورته الحالية في تموز 1993، ليستعيدَ مكانته في السّياسة اللبنانية حتى باتَ الطريق إليه شاغلَ العقول وآسر الأحلام ومنبع السياسات والتطلعات والطموحات ..
تختصرُ عبارة "لو دامت لغيركَ لما اتصلت إليك" المشهدَ السياسيّ القائم في لبنان، رَغم أنّها تناقض المثل الشعبي "يا رايح كتّر القبايح"، لأنّها ترسم مسارًا زمنيًا محدودًا، بأنه لا أحدَ يضمنُ البقاءَ في موقعِه مهما بلغَ من مقاماتٍ ومهما علا من شأن، لكنني كنت استغرب المثل الشعبي وأسأل نفسي : كيفَ يُمكنُ لمن يغادر موقعًا أو مقامًا أو حتى منزلًا أو وظيفة ألا يترك شيئًا من الذكرياتِ الطيبة عنه ليتذكره الآخرون بها؟.
اليوم ونحنُ في الأمتار الأخيرة من ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، كنتُ أتمنى أن أكتبَ عبارة "مع الحب" لو عَمِلَ خلال السّنوات الستة الماضية وفق المقولة أعلاه، وأدرك يقينًا أنه مغادر، وأنه مفارق الموقع الذي جعله يتحكم برقاب العباد والبلاد، لكن عبارة "مع الشفقة" هي الأكثرُ تعبيرًا عن واقعِ حالنا، والذي سيدونه التاريخ كأبشعِ وأفظع مرحلة من تاريخ لبنان، لأن هذا الرجل قد ألحقَ الأذى بـ "وطني" وعلى مرحلتين كما لم يفعلْ أحدٌ قبله، وربّما لن يأتي علينا مَن يفعلْ كما فعله بعده .
من دونِ حقدٍ أو كراهية أشفقُ كثيرًا على "فخامة الرئيس القوي"، لأنه ظهرَ كـ"نمر من ورق" ليس أكثر، حتى بات "ألعوبة" يُحركها "الصهرُ الأرعن" كيفمَا يشاء، وكان ينقصُ تاريخَه العامر بالهزائم والتناقضات والانسحابات، التكتية منها وغير التكتية، أن يصلَ لبنان في عهدِه إلى "جهنم"، وقد بلغه مقرونًا بعبارة "وبئس المصير"، نعم أشفقُ عليه وقد بَلغَ "أرذل العمر" ودَمَغَ اسمَه بشتّى الأوصاف التي ستلاحق ذكراه ردحًا طويلًا من الزمن .
ليس فيما أقول ضراوةُ حاقدٍ بل هي الحقيقة المجرّدة من كلّ لُبسٍ، فقد بلغَ "الرئيس عون" وفريقه السياسي برمتّه حدًّا غير مسبوق من الانفصام عن الواقع والغطرسة المغلّفة بالغباء السياسي الفاقع، وَضَعَه في خانة "التملّق" من الشعب اللبناني بأكمله، هذا الشعب الذي ناداه عون شخصيًّا ذات يوم "يا شعب لبنان العظيم" بلغَ في عهده الدّركَ الأسفل من كلّ شيء، وشَهِد على أيامِه كلّ ضروب الذّلّ والهَوان، حتى باتَ يحسِبُ نهاية عهدِه بالسّاعات .
ولأن الشيء بالشيء يذكر وبالنظر لما نشهده في هذا العهد "المندثر قريبًا"، تذكّرتُ تلك "الطُرفة" التي تناقلها الإسبان عن جنرالهم "فرانكو" عندمَا كانَ يرقد على فراش الموت سَمِعَ ضجّة وجلبة خارج قصره. فسأل زوجته التي كانت قد بقيت إلى جانبه : ما هذه الضجّة؟، أجابت : إنه الشّعبُ الإسباني جاءَ لوداعك !! لوداعي ؟، إلى أين هو ذاهب ؟!!
لقد كان فرانكو، كما نعرفُه ونعرفُ صفاته ومزاياه يُشبه كثيرًا "رئيسنا القوي جدًا"، كان من ذلك النمط من الطغاة الذين يعتقدون أن الله خلقهم ليحكموا، فإذا رفضهم الناس، فإن على الناس أن يذهبوا .. إما إلى المعتقلات والسجون أو إلى الجحيم، أليس "جنرالنا الميمون" من أدخل المصطلح العظيم "جهنم" إلى حياتنا بكل تفاصيلها ؟.
وصل هذا العهد للخاتمة وأشرف على الغياب، وها هو قطار "الآلام" الذي فرَضه عون و"فريقه الانتهازي" على اللبنانيين وأرغموهم بأنانيتهم المفرطة على أن يستقلّوه قد بلغَ "محطته الأخيرة"، بعدما بلغوا معه حدودَ المأساة ولم يعدْ ينفعه ممارسة أساليب التحايل والكذب، المأساة الإنسانية الكبرى التي دفعت كل اللبنانيين إلى ابتكار لغاتٍ جديدة للسخرية من هذا العهد ومن سقطاتِه الفاضحة بدءًا من "فجر القرود" وانتهاءًا بـ "هدراهيروقسمهريكم" من دون نسيان "جهنم" و "هاجروا" و "ما بيوصلوا لتحت زناري" .. السخرية من البنى الفكرية والسياسية التي أرغمتهم على التعايش معها بالإكراه ..
أصبحنا كـ "شعب" ضاقَ ذرعًا من الغوغائية التي صبغت هذا العهد، نّمقُتُ طفيلياته وأساليبَ تحايله للهربِ من مسؤولياته عمّا أصابنا من جوعٍ وفقرٍ واهتراءٍ في كلّ ما يمتُّ بصلةٍ للحياة، وأصابتنا الكراهية لكلّ أنواعِ المضاربة بحياةِ الناس من الكهرباء إلى لقمة العيش، حتى باتت رحلة البحث عن قوتنا اليومي كرحلة البحث عن القارة المفقودة، وباتِ تواجد "عون وفريقه الاستشاري المفتن" في "قصر الشعب" مصدرٌ لليأس والاكتئاب، وارتفعت معدّلات السّخرية لدى الناس، لأنها الوسيلة الوحيدة للسخرية من واقعٍ مؤلم عاشه وفق مقولة "مكرهٌ أخاكَ لا بطل" ..
أيامُ "شاغل" قصر بعبدا المعدودات ومعه تلك المجموعة الباغية لم يعدْ ينفعْ معَها التأويلُ والتفسيرُ، وما يفعله هذا الفريق ليس سوى الاستمرار في طبعِ أيامنا الثقيلة به، بـ "القبائح" التي ارتكبها بحقنا كـ "وطن" و "مواطنين"، وما أتحفنا به من فنون التراجيديا والدراما والمهاترات، وما أدخله علينا من أدبياتٍ ساخرة فارغة كـ "العهد"، الذي ستدور الدوائر عليه، والذي نستعدُّ لنهايته بشراءِ "جرار الفخار" ..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.