30 تشرين الثاني 2022 | 09:35

أخبار لبنان

بروفيل شخصي: «سعد» «السعديات»!

كتب عماد الدين أديب:




على شرفة السكن على شاطئ السعديات في عاصمة الإمارات «ابوظبي» جلس سعد رفيق الحريري مرتدياً زي سبور وحذاء رياضي أسود.

انتهى من وجبة «السناك اليومية» التي وصفها له طبيب التغذية المكوّنة من الفواكه الطازجة والشوفان كي يتناول بعدها بساعتين وجبة مشاوي وسلطة خضراء.

يحافظ الرجل على وزنه وصحته بشكل غير مسبوق.

ينام في الليل نوماً عميقاً، وفي ساعة غير متأخرة، يمارس الرياضة مرتين في اليوم: الاولى رياضة متنوعة في الجيم، والثانية ركوب الدراجة الرياضية من أجل تنشيط الدورة الدموية.

النوم، الراحة، الابتعاد عن التوتر، الرياضة، الهواء النقي، الدراجة، النظام الغذائي كلها نصائح الأطباء في بيروت وفرنسا بعدما ضاقت الشرايين من أهوال ما عاصر وشاهد من الاحداث بين البشر منذ أن هبطت طائرته في شباط 2005 كي يدفن والده الشهيد.

منذ ذلك اليوم، وتلك اللحظة، لم يعرف هذا الرجل لحظة راحة بال، لحظة استمتاع، لحظة استرخاء، لحظة سكينة أو طمأنينة.

ما زالت لحظة رؤية جثمان والده متفحماً تماماً مسجى في غرفة المعيشة بعد انتشالها ممددة في منزل «قريطم» تطارده بإلحاح.

يحمل ألمه بداخله، يحمل كابوسه في ذاكرته.

ها هو الآن يجلس أمام شاطئ بحر «السعديات» يدخن «الميدواخ» (عبارة عن غليون صغير يستخدم فيه تبغ طبيعي يتم إشعاله مرة واحدة ثم يتم تغيير التبغ) ويذهب بذاكرته لبعيد.

منذ 18 شهراً يعود لبعض الوثائق ولبعض محاضر الاجتماعات ويقوم بتدوين بعض الوقائع والأحداث والحوارات التي دارت في اجتماعات أو غرف مغلقة حتى لا «تطير الوقائع مع دخان الحياة أو تغييب الموت».

يفعل ذلك بنفسه من دون مساعدة أحد، فهناك بعض الوقائع لم يعشها ولا يعرفها ولم يشهد عليها سواه.

لا يحيط نفسه إلاّ بقلة قليلة من البشر المقربين معظمهم من الاداريين.

من على شرفة السكن على شاطئ «السعديات» يتأمل بحر «ابوظبي»، ويذهب بخياله الى حيث «ست الدنيا» بيروت.

درجة الحرارة في السعديات مثالية بين 24 و26 درجة، غروب الشمس شاعري، نسمة هواء رقيقة تعود به الى شواطئ المتوسط.

لحظة الاسترخاء، هي لحظة نادرة لم يعرفها سعد الحريري منذ أن هبط على عجل وحزن عميق كي يدفن والده عام 2005.

17 عاماً قضاها في محرقة الحكم، ومعتقل السلطة، ومذلة محاولة التوفيق بين مائة قوة ومصلحة وإرادة متناقضة!

الآن يجلس عند كل غروب أمام شاطئ البحر ليطرح على ذاته أسئلة وجودية لم تمهله الصراعات او الانشغالات أن يطرحها على نفسه:

ما هو التعريف الحقيقي للقوة؟

هل القوة في السلطة ام ان القوة في البقاء بعيداً عن السلطة؟

ما هو الموت؟ هل هو التوقف اكلينيكياً عن التنفس ام التنفس مع التوقف عن الامل؟

من هو الافضل حالاً اليوم: رفيق الحريري الذي استشهد في حادث تفجير إجرامي أم سعد الحريري الذي اريد تفجيره وهو حي؟

من هو الحليف الوفي؟ وهل يوجد مثله على كوكب السياسة اللبنانية؟

من باعه من الاصدقاء والاقارب والحلفاء والزملاء؟ من بقي منهم ومن تلاشى وذهب يعرض نفسه في ساحة الاستئجار لمن يدفع؟

اي تجربة هذه التي قضاها هذا الشاب العاشق للحياة الذي كان يعرف انه «خير من يطهو الباستا» وأفضل من يسعد اصدقاءه، وأكثر من يستمتع بالسفر والمستمتع دائماً بأسرته الصغيرة والراغب دوماً في الاقتراب من دفء والده.

قبل استشهاد الوالد تحمّل مسؤولية أكبر الشركات، وكان مسؤولاً عن تنمية عقودها ومتابعة تحصيل ايراداتها.

من الولايات المتحدة، ومن الجامعة في مدينة واشنطن العاصمة تحمّل المسؤولية التي كانت تتطلب منه التعامل مع الديوان الملكي وأصحاب السمو وأكبر المصارف ورجال الأعمال.

كان يصل الليل بالنهار لإقامة شبكة علاقات عامة في المملكة كي يحقق آمال والده فيه.

في ذلك الوقت كان رفيق الحريري في دوامة الصراع السياسي ومعركة البناء والتشييد للبنان الذي خرج مدمراً في الاقتصاد والابنية والنفوس، بعد حرب أهلية استمرت 17 عاماً .

نجح الحريري الاب في إعادة بناء الحجر لكن استعصى عليه بناء نفوس البشر.

في ذلك اليوم المشؤوم سمع الابن سعد خبر انفجار موكب والده أمام السان جورج قبالة كورنيش بيروت البحري.

منذ تلك اللحظة بدأت رحلة سعد مع الألم.

عاد من عالم ليدخل عالم آخر.

عاد من عالم يتعامل فيه مع أصحاب «سمو» ليتعامل في لبنان مع أصحاب «دنو».

عاد من عالم يتابع فيه عمليات بناء وصيانة لشركاته الى عالم فيه عمليات نهب وتدمير في لبنان.

عاد الى عالم لم يكن يسعى إليه، ولم يكن مستعداً له.

فور هبوطه من الطائرة في ذلك اليوم المشؤوم، قص شعره الطويل، وارتدى ربطة عنق الحداد، وودّع الابتسامة والسعادة، والاسرة، والطهو، والاصدقاء، ودخل نفقاً مظلماً لا يجد فيه عود ثقاب يضيء له الطريق.

ولكن لماذا دخل السلطة والسياسة والمسؤولية؟

لماذا لم يفعل مثل شقيقه وفكر في تسييل أموال حصصه في تركة إرث والده ويستمتع بها نقداً في إمارة موناكو ومصارف سويسرا؟

قضية «سعد» الأولى كشاب غير مسيّس انه -عاطفي وإنساني- كان يبحث عن مكان يستطيع فيه أن يدافع عن دم أبيه ويفعل المستحيل كي تنعقد محكمة دولية تبحث في واقعة اغتياله وتشير الى تحديد المسؤولية عن تلك الجريمة.

دخل «سعد الحريري» في مستنقع السياسة اللبنانية، وسار في حقل ألغام السياسة فيها!

مع كل يوم، وكل موقف، ومع كل سياسي يكتشف انه وسط حفنة من المافيا.

ومع كل يوم، ومع كل موقف، ومع كل سياسي اكتشف أنّ لا يوجد سياسي لبناني هو لبناني الهوى او لبناني السيادة لكنه مربوط بخيط مشدود الى عاصمة خارجية، سواء في دمشق أم طهران أم باريس أم واشنطن.

اكتشف سعد ان شراء الذمم وبناء الولاءات هو المصدر الرئيسي للدخل في الوسط السياسي اللبناني.

ولم يحسب كم سيكسب من لعبة السياسة في لبنان، بل كاد يكون ثاني سياسي في لبنان دخل لعبة السياسة بثروة مالية وعقارية وتركها وهو لم يضاعفها عشرات المرات، بل خسرها وتركها مديوناً.

دخل عالم السياسة في لبنان بابتسامة دائمة وتركها بجرح نفسي عميق.

دخل عالم السياسة في لبنان بصحة كاملة وتركها بضيق في الشرايين وتركيب دعامات في القلب.

دخل عالم السياسة وهو يعتقد ان أصدقاء ابيه وحلفاءه السابقون سوف يكونون خير داعم له، فاكتشف ان الصداقة مثل العشق لا شيء فيها نهائي وأبدي، وأن قصص الحب قد تنتهي بخيانة أحد الاطراف للآخر.

دخل السياسة وهو يعتقد ان الدم الذي يربطه بالعائلة أقوى من أي مصالح وأي سلطة وأي أرقام، وأصيب بالذهول حينما اكتشف ان رابطة الدم تتحوّل الى ماء اذا كانت هناك رغبة مرضية للحصول على سلطة حتى لو كانت على جثته!

الآن «سعد» الجديد الذي خرج من مرارة تجربة السنين، وتعلم الدرس القاسي انه لا يمكن أن تكون بريئاً في عالم من الاشرار، ولا يمكن أن تصدق كل ما تراه عيناك، ولا تثق بكل ما تسمعه اذناك، وبعد مراجعة شاملة وقاسية لكل الاحداث والعثرات والاصدقاء الحلفاء والاعداء هناك رؤية مختلفة تماماً عن رؤيته للدنيا والناس والمصالح مثل تلك التي كانت في شباط 2005.

17 عاماً في السلطة مرت عليه وكأنها 170 عاماً في الحياة!

في 28 حزيران 2005 انتخب نائباً في البرلمان اللبناني.

وشغل رئاسة حكومته الأولى في 9 تشرين الثاني 2009 حتى 13 حزيران 2011.

وعاد بعد صراع مع الفراغ لرئاسة حكومته الثانية في 18 كانون الاول 2016 حتى 29 تشرين الاول 2019.

لحظتان أجبرتاه على طرح سؤال وجودي على نفسه وضميره.

اللحظة الأولى لحظة تخرّج ابنه الأكبر «حسام الدين» من إحدى الكليات العسكرية في بريطانيا.

في تلك اللحظة قال لنفسه: «الآن كبر حسام وأصبح في سن تحمّل المسؤولية المهنية، فماذا تركت له؟ هل أترك مشاكل سياسية وعداوات تاريخية؟ وحسابات مفتوحة غير محسومة؟

(لاحظ ان مجلة «فوربس» قدّرت ثروته في عام 2016 بـ2.5 مليار دولار).

هنا يبقى السؤال كم تبقى منها؟ وكم بقي من شركات المقاولا ت والاتصالات والعقارات والاسهم والبنوك؟

اللحظة التغييرية الثانية، حينما نصحه طبيبه الخاص والمقرّب منه د. حسام ياسين بإجراء عملية قسطرة (تمييل) في المستشفى الاميركي في باريس، وقيل يومها إنه كان إجراءً وقائياً.

يومها فكر سعد الحريري البالغ من العمر (52 عاماً) ماذا يحدث لو كانت الضغوط أكبر من القدرة على أن يتحملها جسدي؟

إنها حالة إنسانية طبيعية تطرح نفسها على كل من يتعامل مع أي ضغوط على القلب.

ليقدم ساعتها الانسان في حساب النفس ومراجعة شريط حياته.

السؤال الذي يطرحه هل كنت أنا القربان الوحيد الذي يجب التضحية به لتطهير السلطة في لبنان؟

ها هو بعيد عن اللعبة، بلا سلطة تنفيذية، بلا رئاسة لتيار المستقبل الذي طالبه بتجميد مشاركته وقواعده في الانتخابات النيابية الأخيرة.

السؤال هل لبنان بلا سعد الحريري، بلا الحريرية السياسية في حالة أفضل؟

يبدأ بعد الافطار والرياضة بمتابعة دقيقة لكل الاحداث المرتبطة بلبنان.

لا يتابع التفاصيل المحلية بحرص شديد لكن يتابع ويستفسر ويتصل في ما يختص بالشؤون الاقليمية والدولية، لأنه يدرك ان «مفتاح الحل» للكارثة اللبنانية خارج لبنان وليس داخله.

يدرك الحريري ان اللاعب المحلي في لبنان فاقد للإرادة والقوة في تقرير مصير لبنان.

ويدرك ان مفاتيح الحل متعددة، مكانها في باريس وواشنطن وطهران ودمشق والرياض والدوحة.

حينما يأتي ذلك اليوم وتتفق هذه العواصم على تسوية إقليمية ما سيكون امام لبنان مشروع للحل.

يستبعد الحريري ان يكون هناك توافق قريب او سريع على رئيس للجمهورية في لبنان.

يتذكر الحريري انه عاصر الفراغ الرئاسي مرات عدة وأنّ مجموع أيام الفراغ الرئاسي والتعطيل الحكومي تفوق ايام الإنجاز التنفيذي.

«لبنان دائماً يدفع ثمن الصراع او التسويات الاقليمية مع الكبار».

ليس متلهفاً على سلطة او مسؤولية رغم ان بداخله حسرة شديدة على الفرصة التاريخية التي ضاعت او ضُيّعت عن عمد بذهاب أموال مساعدات «سيدر».

يؤمن بأنّ أموال «سيدر» ذهبت مع الفراغ السياسي المتعمد، ذهبت ولن تعود لأنها ببساطة لم تعد موجودة ولا تجد نظاماً سياسياً صالحاً لإدارتها.

من هنا يعود كل غروب ليجلس على شاطئ السعديات ويضع «رسالة في زجاجة» لعلها تصل الى شاطئ بيروت تقول «أنتظر حتى يعود لبنان الى سيادته»، وفي نهايتها يذيلها بعبارة: «بحبك يا لبنان - سعد الحريري».

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

30 تشرين الثاني 2022 09:35