11 شباط 2023 | 20:57

مجتمع المستقبل

يا "رفيق" .. غيابك والحزن توأمان - خالد صالح

كتب خالد صالح:

دولة "الرفيق الشهيد" :

أخاطبُك في عليائِك لأعترفَ لكَ بأنّنا لم نجتمعْ يومًا على أحدٍ قط كما اجتمعنا عليكَ يا "رفيق" وعلى تأبينِكَ وعلى رثاءِ غيابِكَ وافتقادِكَ .. وحسبي أننا لن نفعلَها بعدَكَ أبدًا ..

مرّة قالَ الماغوط :

"أنا شخصيًا لا أعرف كيف بدأ حزني، ولا يعرفُ أيّ إنسانٍ متى بدأ الحزنُ عند البشرية، ولكني أعرفُ أنّ الحزنَ شيءٌ يُولد مع الإنسان العربي، ويظلّ معلّقًا في عُنقِه، كما يُعلَّق القفصُ في عُنقِ العصفور، إذ هو يُغرّدُ ويطيرُ وينام، ويظلّ هذا القفصُ في عنقه، المشكلة أن بعضَهم يملؤه زهورًا، وبعضَهم يملؤه دموعًا .. وأنا من النوع الذي يملأ هذا القفص بدموعِه، ولا يُمكنُ لأيّ بهرجةٍ أو انصرافات خارجية، أن تصرفَني عن أنّ في عُنقي قفصًا وما أعرفه أنني لم أصنعه ، بل صنعه الطغاة، صنعه التاريخ .. صنعه الفقر .." ..

لستُ جديرًا بالحديثِ عنكَ يا "رفيق" فمثلُكَ لا طاقة لأمثالي على الغَوصِ في بعضٍ من مزاياك – وهي كثيرة جدًا – فنحنُ لفيفٌ من "الجهلة" قمنا بحشو النوافذ بالأعضاءِ الفائضة عن الحاجة، ثم تنازلنا عن حقّنا في الكلامِ المنمّق، شيّعنا العربات المليئة بالأحلامِ وبصمتٍ، وقفنا نتطلعُ إلى أقدامِنا العارية، أدركنا منذ قرابة عقدين أسودين، لماذا أنت تحديدًا أرادوك "محطة أبدية" بين فصول التاريخ، ما قبل الزلزال وما بعده ..

يا "رفيق" .. نحن لفيفٌ من "الأوباش"، نربّي الردَاءة، نُدجّنُ القحط، نلتهمُ أكبادَنا، نُدمّر تاريخنا وحاضرَنا ومستقبلنا، نأكلُ من ذاتِ الماعون ونُشغفُ ببراءةِ طيرٍ تائه، ولأسبابٍ تتعلّقُ بسوءِ الفهم، نملكُ أرواحًا من قشّ، تتلاعبُ بها رياحُ الدّينِ والمذهب، وتقذفُ بنا خلفَ "المتاريس"، التي أزلتَهَا بيديك ..

يا "رفيق" .. بعدكَ أصبحنا شعبًا "مختومٌ على ذاكرته"، نسينا أين كُنّا معكَ وأين صرنا بعدكَ، نحن "المواطنون" الكتلة الأضعف، الأكثرُ إنهاكًا، المسلوبة تمامًا، الموغلُ فيها التخريب واليأس، نحن الكتلة التي أقتنعت منذ 14 شباط 2005 أننا بتنا "عراة" تلفحُ وجوهَنا وقلوبَنا وأجسادَنا "برودة" الأنانية المفرطة الباحثة عن مكاسبَ آنية على حسابِ ديمومة الوطن ..

يا "رفيق" .. نحن الكتلة التي تُراقبُ بضعفٍ شديد، وبحزنٍ وضيمٍ عظيم، تُراقبُ من خلفِ الشّاشات أعظم "مهزلة" مرّت على العالم، فـ "ما حدا أكبر من حزبه" حلّت مكان "ماحدا أكبر من بلدو"، و "التطرف والانعزالية والتقوقع والأفكار الانقسامية" لدى الشركاء احتلت مكان "المسيحي المعتدل أقرب إلي من المسلم المتطرف"، لستُ كئيبًا ولم أكن كذلك يومًا، غير أنني، وبشكلٍ عفوّي، كنتُ أراقبُ ما يجري، أشاهدُ العالم وهو يمرّ ملوّحًا بحزنهِ قابضًا على الزمن، حتى انعكس؛ دونما أدري ليلَهُ على وطني ..

يا "رفيق" .. لم نقرأ التاريخ جيدًا أن الزّوالَ هو مصيرُ الطغاة، فلا شيء جديدًا منذ رحيلكَ في تلك السّنة القاسية السوداء، المزيدُ من القهرِ والمزيدُ من الموتِ والكثيرُ الكثيرُ من الدّموع، الوطنُ الذي تركته "لؤلؤة" صار ميتًا، المزيدُ من التلويح وداعًا، للأباءِ والأبناءِ والأزواج، وتلويحة مرّة للموتى الذين سبقونا، لاشيءَ جديدًا، شوارع غير معبّدة، أرصفة منخورة، مجارٍ طافحة، كهرباء معدومة، مياه ملوثة، أطعمة فاسدة، لا حدائق، لا مسارح، لا حياة تضج بالفن والفرح، بات هذا الوطن "المقام" الأول للموت والقهر، مجرّد أن تدخله ستشعر بالرعب، وستكتشف أن حياتنا "الحلوة" أصبحت سيئة الصّيت ..

يا "رفيق" .. بعدكَ صرنا نجاهدُ للإمساك بأطرافِ ابتسامة، مدارسُنا مقفلة، جامعاتُنا مهترئة، مستشفياتُنا من الأدوية خاوية، وأطفالُنا يلبسونَ "الخِرق" ويفترشونَ الأرصفة على سبيلِ التسوّل، هلّا عرفت أن التجّار "الفجّار" ينهشون من لحوم أهاليهم؟ .. فالدولة الغافية تتغافل عن مراقبتهم لأن الشراكة بينهم قائمة ومستمرة، وزواج "المال" بـ "السياسة" شرعي في هذا البلد غير الشرعي، في هذا الوطن "اللقيط"، في هذا الوطن الأضحوكة، في هذه "الخربة" التي أسميناها زورًا بـ "البلد" ..

يا "رفيق" .. صار بإمكانكَ أن تضيعَ وسط حشدٍ هائل من الحزانى، أولئك الذين كنت تُبلسم جراحاتهم وتخفف من عذاباتهم، فـ "الشهداء" أمثالك يسمعون ويتألمون، و"العصابة" التي عاثت قتلًا وتنكيلًا وإفسادًا ترقص في حفل جماعي، ووطن الحياة الذي غادرته صار "غابة" مخيفة لاشيء فيها سوى وحوش ضارية وغربان ناعقة، أدركُ أن المشهدَ "خادشٌ" و "مؤلم"، نعيشُ في "بلد" يتحتّم على سكانه تجنّبَ الوحلِ شتاءً، والغبار صيفًا، والعوز لبقية أيام السنة، القمامة أغلقت طرقاتنا واجتاح "التكتك" شوارعنا، و "شلة الأنس" ساستنا يتفرّجون ليتباركوا وليشبعوا بطونهم ..

يا "رفيق" .. إن الأمّة التي لا تستطيع إنقاذ نفسها، ستبتكرُ ألفَ حلمٍ لخلاصها، هكذا قرأنا في كتابِكَ، فقد علّمتنا أن نحتفظ لأنفسنا بـ "عينٍ ساخرة" من تحدّيات الزمن، و "شتيمة" و "صرخة" في وجهِ الطغاةِ والطغيان، وقلتَ لنا "ما بيحك جلدك إلا ظفرك" لأننا قد نموت من دون أن ينتبه لنا أحد وبشكل سلس وطبيعي، ربما في حادثة دهس، أو إطلاق نار عشوائي، وباء، مرض، جوع أو "تفجير" وحتى "كاتم الصوت"، هذا كله لا يهم البتة ولن يلتفت إلينا العالم ..

يا "رفيق" .. سنعرفُ هذا بعد حين، أو كلّما طوينا عدة سنواتٍ من حياتنا، أن ما نبّهتنا منه قبل عقدين من الزمن لم يكن قراءة تشاؤمية لمستقبل وطننا، بل كانت عيونك الثاقبة التي تستشرف معالمَ الغد، كنتَ تحفرُ عميقًا في الذاكرة على نحو مرعب، واليوم نرى "الحقيقة" المجرّدة نمسح عنها الدموع والغبار، كمن التقط ماسة فريدة، ستبدو الحقيقة وحيدة ويابسة، حقيقة أن قلوبنا صارت بقايا عصفور نافق ..

سأتوقف يا "رفيق"، لأنني مازلت متمسكًا بـ"أحلامي" التي عرفتها معك .. لأنجو .. لن ننساك ما حيينا، لأن نسيانك يحتاج إلى "جفاف" في "الذاكرة، وحتى اللحظة ماعرفت ذاكرة حيّة قد جفّت، فلك في عليائك مني السلام ..

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

11 شباط 2023 20:57