5 حزيران 2023 | 18:23

أخبار لبنان

كي لا يسقط لبنان من المكان

كي لا يسقط لبنان من المكان

رشيد درباس

أنا لا أفتقر الى البراهين لإثبات براءتي

بل إلى السفاهة والوقاحة والسلاطة.‏

سقراط في محاكمته




عثرت في مكتبتي على كتاب قديم للمفكر والمؤرخ ‏قدري قلعجي، عنوانه "أشهر المحاكمات في التاريخ"؛ ‏حكى فيه، من جملة ما حكى، عن محاكمة كل من ‏‏"سقراط" و"بودلير" و"غاليلييه"، التي تعبِّر نتائجها ‏الكارثية عن سوء التقاضي في ظروف العشوائية ‏والعشوائيين.وفي اللغة أن "الأعشى" هو المصاب ‏بسوء البصر في الليل والنهار.‏

كان بمقدور سقراط أن ينجو من تجرع السم، ‏لوأظهر في الحديث بعض طلاوة،وفي الموقف جانبًا من ‏مرونة. لكنه آثر أن يدفع ما تبقى له من حياة، في سبيل ‏حيوات القرون القادمة، حين أكد أنه استجوب جميع ‏الأشخاص الذين يسمونهم علماء، فوجدهم لا يعلمون ‏شيئًا، لأنهم يزعمون علمهم أشياء بعينها، أما هو فأعلم ‏الناس،برأيه من يعلم أنه لا يعلم شيئًا. وقبل اختلاجته ‏الأخيرة همس في أذن صديقه "كرتيون":"أنا مدين بديك ‏لإله الطب "إسكولاب" كذبيحة تعني أن الموت هو ‏الشفاء من داء الحياة".‏

وحين حوكم شاعر "أزهار الشر"، ترافع محاميه ‏مدليًا بأن نصوص الديوانلها شبيهاتها لدى (دوميسيه ‏وغوته ورابليه)، وبأن صاحبها لا يدعو إطلاقًا إلى ‏إفساد الأخلاق، بل هو ذو نية حسنة، فعلق بودلير: ‏‏"لست راضيًا عن المرافعة،لأن الفنان لا يؤدي حسابًا ‏أمام الأخلاق،ولا يطلب منه حسن النية ، بل أن يكون ذا ‏موهبة".وهو،بعدما أدانتهالغرفة التأديبية السادسة في ‏باريس،برأته محكمة التمييز الفرنسية في 31-5-1949، ‏أي بعد ثمانين سنة من وفاته.‏

أما"غاليلو ابن المرحوم فننسانزيو غاليلي من ‏فلورنسا"، فقد تلا أمام محكمة التفتيش فعل الندامة ‏والتوبة والتنصل من نظرية الشمس الثابتة والأرض ‏التي تدور؛ لكنه، بعد صدور الحكم عليه بالإقامة ‏الجبرية خرج من قاعة المحكمة وقال لأصدقائه الذين ‏كان يتكىء عليهم:"ومع ذلك فإنها تدور".‏

الشاهد من نتائج هذه المحاكمات الثلاث أن أبشع ‏أنواع الظلم يتمثل في استسلام العدالة "للجمهرة"ذات ‏الحناجرِ والشاشاتِ والتظاهرات، لأن القاضي إذا فعل ‏ذلك، أصبح جلادًا ينفذ ما يمليه عليه الغاضبون ‏والعشوائيون والغرائزيون، في الوقت الذي من حقِّ ‏مرتبته عليه أن تمليبه على الآخرين، بمن فيهم أصحاب ‏المقامات الرفيعة، أن يطأطئوا رؤوسهم أمامه احترامًا. ‏فإذا أحنى الرأس مرة واحدة، أو خفق قلبه من وَجَلٍ أو ‏هوى، فهوساعتئذٍ لا يهوي لوحده من مكانته، بل يبلبل ‏الوجدان العام في مبدأ حيادية القضاة والتزامهم بالحق، ‏وَيُعَرِّضُنفسه للإدانة من قبل محكمة التاريخ التي لها ‏النطق بالحكم الفصل، ولو بعد حين، فقد أعدم سقراط ‏وظلَّ أعلم العلماء، وأدينت "أزهار الشر"وما زالت من ‏أروع الشعر الفرنسي، وتراجع غاليليو وما برحت ‏الأرض تدور وتدور.‏

هذا السياق في الكلام عن العدالة، ليس مستقلًّا ‏بذاته عما حوله. فما يقال عن القضاء يقال ما هو أمر ‏منه عن نظام مصرفي شكل على مدى عقود صمام ‏أمان مالي، ووطد ثقة كانت سرنجاحه وسبب تدفق ‏الأموال إلى صناديقه من الداخل والخارج، إلى أن ‏تحالف التهتك السياسي بمنظومته وأحزابه وحكامه، مع ‏التهتك المصرفي المرعب الذي مارس الغش ‏الاستراتيجي، بنشر أرقام الأرباح الخيالية،فسلَّما ودائع ‏الناس للهندسات المالية الجهنمية التي ليس لها مثيل في ‏التاريخ، حتى استفاق الشعب اللبناني على يوم تحسس ‏فيه جيوبه فوجدها خالية بفعل القوارض التي تسللت من ‏ثقوب الحواسيب، وأفرغت الخزائن من نقود الناس.‏

بيد أنه لا يجوز لنا أن نلوم القضاءولا النظام المالي ‏وحدهما على ما فيهما من خلل، لأن أزمتيهما ليستا ‏وليدَتَيْ سوء الإدارة وحسب، بل هما ظاهرتان طبيعيتان ‏تدلان على أن الجسم السياسي اللبناني الواهن الذي فقد ‏الآن مناعته وجدارته، بدت عليه من قبلُ سلسلةٌ من ‏العوارض المرَضَيَّة في القضاء والاقتصاد والأخلاق ‏والفن والإعلام، ناجمةٌ عن خلل جوهري في رقابة ‏الدماغ وانتظام خفقان القلب،نتيجة عدم الالتزام بتنفيذ ‏الإصلاحات السياسية والإدارية من اجل ضمان حوكمة ‏صحيحة في إدارة الحكم، وكذلك في عدم احترام ‏القواعد الاقتصادية والمالية الرصينة، فكان انتهاك ‏الدستور، وكانت إدارة شؤون البلاد عبر دورة دموية ‏مسمومة تتحكم بها الفظاظة والجهل والجشع وعدم ‏الانتماء. ذلك أن أي مسؤول، لو أدرك يومًا أنه ابن ‏الأرض التي يقف عليها، لما جحدها هذا الجحود غير ‏المسبوق، ولما انتهك ماءها وهواءها وكهرباءها ‏ومرافقها، ولما ترك مواردها منهوبة ومُسَيَّبة، ولما ‏أهمل اقتصادها الذي كان يمكن تداركه لو جرت قراءة ‏ميزان المدفوعات الذي اختل منذ العام 2011، أو قراءة ‏حسابات مصرف لبنان الذي كانت موجوداته من ‏العملات الصعبة تفوق المطلوبات فانقلبت الآية بعد ذلك ‏وبدأت الاحتياطات تتحول الى سلبية ابتداء من العام ‏‏2014، وانقلبت الآية من غير أن يهتز جفن، أو تمتد يدٌ ‏توقف التداعي الذي كانت نتائجه الكارثية ظاهرة لكل ‏بصير.‏

والسبب في هذا أن الحكام لا يكونون مؤهلين ‏للإمساك بناصية الأمور، إذا توسلوا الارتهان خطةً ‏للوصول إلى السدة، لأنهم يجعلونها منقادة لخارجٍ ما، ‏فيكتفون بالوقوف على هامش الوطن، حسبهم منه الأبهة ‏والعيش الرغيد وتوفير حيوات مريحة لأنسالهم ‏وأنسبائهم والحلقات الضيقة المحيطة بهم، فيما مصير ‏الدولة، كحاجة يومية وفردية لكل مواطن، أسير ‏‏"روزنامة" أجنبية لم ترحم لبنان في أي موسم، لاسيما ‏في مواسم الصيف.‏

إن الطبقة السياسية بمعظمها تتكيف مع الأمر ‏الواقع كما فعلت قبلًا، لأنها لا تتمتع باستقلال الرأي، ‏ولا تنتمي إلى استقلال لبنان، وليست من قماشة رجال ‏الدولة السابقين الذين كانت لهم في المفاصل الخطرة ‏مواقف صارمة دفعوا أثمانها قتلًا أو تشريدًا أو ‏تهميشًا؛فنحن نتذكر عهد الرئيس فؤاد شهاب، ويفوتنا ‏ذكر خطاب عزوفه عن الترشح الذي أعلن فيه أن ‏الإصلاح لا يمكن أن يتم في ظل تركيبة يتقدم الانتماء ‏فيها للطائفة على الانتماء للوطن.وفي السياق ذاته فإن ‏تغييب سماحة الإمام موسى الصدر مؤشر على قيمة ‏أصحاب المبادرات والشجاعة، وكيف يتركون أثرهم ‏العميق عندما يتخطون الطائفة إلى فكرة بناء الدولة ‏الحديثة. ونستذكر أيضاً الشهيد رشيد كرامي، ويفوتنا ‏أن الغدر به كان سببه محاولة تخطيه الخلافات ‏المستعصية باتجاه تسوية ما. ونقيم ذكرى الرابع عشر ‏من كل شباط، وننسى أن رفيق الحريري لفظ نفسه ‏الأخير وهو يستودع الوطن عناية الله.ونترحم على ‏ريمون إده غافلين عن أنه تجاوز منافسته للرئيس ‏شهاب، وذهب إليه مقترحًا تشكيل الحكومة الرباعية ‏حتى لا يعود لبنان إلى دورة عنف جديدة. ‏

رسم هذه الصورة، ليس فيه جديد حيث سال حبر ‏كثير وامتلأ هواء فسيح بالمقولات التي تشخص الحالة ‏بأشكال متشابهة، ثم تقف عاجزة عن تصور العلاج ما ‏خلا بعض مدعي الطِّبابة الذين يقترحون بتر الأطراف ‏التي تنتابها الآلام، أو يدعون لفدرالية "المايوه" تمييزًا ‏بين المتحضرين وغير المتحضرين على ما أشار إليه ‏جهاد الزين في مقاله في "النهار".‏

أنا أحاول في السطور الآتية تظهير حقائق تختبىء ‏خلف التمويه أو التجاهل، من أجل كسر قشرة اصبحت ‏ركيكة جدًّا فلم تعد صالحة لستر ما يعتمل في داخلها، ‏فقد آن الأوان لإشهار اللغة الفصيحة في وجه اللعثمة ‏والتمتمة والكلمات المبهمة:‏

أولى هذه الحقائق أن الطوائف المسيحية التي كان ‏لها الدور الأكثر أثراً في إنشاء دولة لبنان الكبير، ‏تجتاحها الآن المشاعر الأقلوية والإحساس بالتهميش، ‏وقد تفاقم الأمر بعد أن استنفد اتفاق "مار مخايل" دوره ‏وأهدافه، فتفرق بعد ذلك المتحابون بفعل زوال المصالح ‏المشتركة.‏

هنا تجدر الإشارة إلى أن تضاؤل تأثير الدور ‏المسيحي على الحياة العامة، عائد بالدرجة الأولى إلى ‏أنهم أنفقوا قواهم في الصراع على السلطة، على حساب ‏عنايتهم الواجبة بالدولة التي كانت لهم ريادة في ‏تأسيسها، فلما قامت، أهملوا مكوناتها وعادوا إلى ‏مشاحنات ما قبل لبنان الكبير.‏

والحقيقة الثانية، أن حزب الله كانت له الكلمة ‏الفصل في معظم القضايا الاستراتيجية والأمور ‏المفصلية،لأنه بجانب قوته العسكرية والشعبية ‏والتنظيمية، يستند إلى غطاء "عوني" فضفاض، هوَّن ‏عليه امتصاص نتائج حرب العام 2006، ومن ثم ‏استثمارها لبسط هيمنة شبه شاملة وللتحكم بالاستحقاقات ‏الدستورية والسياسية.لكن ذلك الغطاء ينحسر الآن، ‏بعدما أصيب بكثير من الثقوب، بما أدى إلى حالة ‏مسيحية شبه عامة سِمَتُها القلق والرفض ونزوع التشتت ‏إلى الالتقاء في وجه خيارات الحزب، وهذا يشكل ‏انسدادًا وطنيًّا خطيرًا، ينبغي معه على الحزب أن يأخذه ‏يعين الاعتبار.‏

أما الحقيقة الأخيرة فهي أنَّ المسألة اللبنانية باتت ‏في خلفيات اهتمامات المجتمع العربي والدول الصديقة، ‏بعد التَّغَيُّرات الحاصلة في الإقليم، والتوتر الذي يسود ‏العالم بسبب حرب أوكرانيا. فالمرحلة الراهنة هي ‏مرحلة تبادل المصالح، قفزًا فوق العواطفوالوشائج ‏التاريخية، وعلى ذلك فإن الدور الذي كان ‏للبنان،وولَّى،يوجب علىالقوى السياسة اللبنانية، لا سيما ‏حزب الله من جهة والقوى التي تعارضه من جهة ‏أخرى، أن تلتقط اللحظة لئلا تضيع فرصة تدارك الكيان ‏الذي شكل وجوده قبل قرن علامة مضيئة، ويشكل ‏حضوره اليوم علامة تعتليها صفرة النزف الخطير.‏

وكي لا يلتبس الأمر أقول:إن المشكلة لا تنحصر ‏فقط بشخص الرئيس الذي لا بدَّ من انتخابه بلا إبطاء، ‏بل بالبرنامج السياسي والإصلاحي الذي تتفق عليه ‏القوى المتنازعة لينفذه الرئيس الملائم،بل الحكومة ‏العتيدة التي في يدها زمام السلطة التنفيذية الحقيقية. ‏وأصل الأمور يتمثل بالاعتراف أن ازدواج السلطة ‏معناه الانشطار، وأن إبقاء البلد في حالة حرب مستدامة ‏أصبح مبدأ مهجورًا، وأن الشعب اللبناني الذي عانت ‏أجياله السابقة القصف الإسرائيليّ، لا يريدُ أن تظل بقية ‏أجياله"مُتَجَّمِعَةً" كأحدب ابن الرومي، اتقاء لاعتداءات ‏إسرائيلية جديدة، وأن الدولة الحديثة لا يمكن أن ترتهن ‏بعد الآن لنظام المقاطعجية والعائلات المقدسة،لأن ‏الدول الناجحة باتت تعتمد على الكفاءات،سيانأكانت من ‏أصول إفريقية كباراك أوباما، أممن أبناء ديانة هندوسية ‏كرئيس وزراء المملكة المتحدة، ريتشي سوناك.‏

‏ الآن نلاحظ منسوب العصبية الذي فاض عن حده ‏في التعاطي مع المسألة الرئاسية ونشهد بأسف تراشقًا ‏لإحراق الشخصيات المؤهلة، بما قد يفضي بنا بعد ذلك ‏إلى رئيس لا حول له ولا طول.‏

فإذا عدت بكم إلى المحاكمات التي بدأت بها مقالي، ‏قلت إن العدالة تستطيع أن تصحح نفسها ولو طال ‏الزمن، وتقدرُ أن تحاكم التاريخَ لا البشرَ وحدَهم، ولكن ‏فقط عندما تصبحُ القيمُ قائدًا وتصلح الآلة السياسية ‏وتتخلص من أعطابها المستعصية.‏

في مؤتمر القمة العربية، تداولت الأوساط أن ذكر ‏لبنان كاد يسقط من بيان جدة لولا أن تداركه وفدنا. ‏

أخشى ما نخشاه، أن يسقط لبنان من البيان والمكان.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

5 حزيران 2023 18:23