كتب محمود القيسي:
"أجملُ البحار
هو البحرُ الذي لم نذهبْ إليه بعد
وأجملُ الأطفال
هم الذينَ لم يكبروا بعد
وأجملُ الأيام
هي تلكَ التي في انتظارنا
وأجملُ القصائد
هي تلك التي لم أكتبها لكِ بعد.."
*ناظم حكمت
"ميشال فوكو".. الفيلسوف الذي أعتقد إن التاريخ مجرد مستودع للمعلومات النيّرة.. لم يعبأ فوكو في كتاباته بالدقة التاريخية الإجمالية كما فعل الكثيرون، بل جعل التاريخ مصدر إثراءً للحياة واعاد له غناه الفلسفي. في حين نشهد اليوم تطوراً غير مسبوق للعلم يترافق مع انهيار دراماتيكي للثقافة على كل المستويات والأبعاد الفكرية. نعم، نشهد اليوم عصر الهمجيه وزمن العلم بلا ثقافة.. للمرّة الأولى في تاريخ الإنسانية، يتباعد العلم والثقافة في مواجهة وجودية حتى الموت: أنفجار علمي مقابل خراب الأنسان والثقافة الإنسانية.
لم ينادي الفيلسوف والكاتب الفرنسي ميشيل هنري أحد رواد علم الظواهر وعلم الاجتماع والسياسة والفن بزوال العلم إنما بزوال الأيديولوجيا المرافقة له بعدما صار العلم همجيةً منذ اللحظة التي نسي أنه هو نفسه شكل من أشكال الثقافة. ويحاول عبر تأملات فلسفية أن يُعيد الحياة إلى الوثبة الأولى للعلم مبيّناً الفعل الثقافي المؤسِّس له. نحن أمام همجية من نوع جديد تخترق مجتمعاتنا وتؤدي إلى تدميرها وتثير تساؤلات وجودية عديدة: هل يمكن التغلّب عليها؟ هل مجتمع بلا ثقافة ممكن؟ هل الانسان في طبعه تواق للهمجية؟
لقد أصطدمت جهود معظم الفلاسفة والمفكرين والدارسين والباحثين في عصر التوحش الراسمالي والفصل بين العلم والثقافة عن أخلاقيّة جديدة تعيد الإنسان إلى حالة أقرب ما تكون إلى طبيعته الأصليّة دون جدوى، ولم تعد أيضًا نظرية مفكّر "العقد الاجتماعي" الفرنسيّ جان جاك روسّو "الهمجيّ الجميل" (Le bon sauvage) في حدودها الدنيا قابلة للحياة كما لم تعد البوذيّة والماركسيّة اللتين تؤمنان بالمساواة التامة بين البشر تجد لها طريقًا إلى طبيعة الأنسان خارج غابة ( الغاية تبرر الوسيلة ) في عصر أسلحة – رأسمالية – الإبادة – الذكية – الشاملة.
انتهت الفيلسوفة حنة آرندت في ختام كتابها "أزمة الثقافة" بإبدائها الشكّ في صوابية مسار البشرية نحو اكتساح الفضاء، وفي أنّ التقدّم العلميّ الذي أحرزته الشعوب المتحضرة، سوف يفضي الى "تدمير البعد الإنساني" المأمول منه. كما ينظر صاحب كتاب "الهمجية – زمنُ علمٍ بلا ثقافة" الفيلسوف ميشيل هنري الى العلم الموسوم بالحداثة والمعاصرة على أنه أحد أشكال الثقافة حيث تستبعد الحياة ذاتها، وترفض أن يكون لها أيّ قيمة خارج المعرفة المعتبرة علميةً ومجرّدة من أيّ تدخّل إنساني، أو غائية عن أنها إنسانية. وتقديس هياكل ومكانة التقنيات الحديثة، والمجرّدة من الأبعاد الخلقية، لتغدو أيقونة هذه الحداثة بلا منازع، على الرغم من كونها منتمية الى العالم اللاإنساني وتقنيته الحديثة.
لا يفتأ الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران يستخدم لفظ "الأزمة" لمقاربة إشكاليات الحداثة وتناقضاتها وتأثيراتها على الفكر والحياة، في معظم عناوين كتبه "هل نسير نحو الهاوية؟" و "الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا" و "عنف العالم" و "الأزمة الكوكبية للحضارة الراهنة" و "دوامة الحاضر" و "أزمة الحداثة" وغيرها.. حيث يرى أن استخدامه مصطلح الأزمة دقيق، فهو لا يُفرّط في استخدامه سوى لأن التناقضات والتقلبات الحداثية بلغت ذروتها، وذلك بإخفاق وعود التقدم والسعادة والتحكم في الكون، وهو ما زعزع الثقة بفلسفة الحداثة على خطى فلاسفة غربيين كثر شككوا في "التفاؤل الغبي" و "التفائل الملعون" وأيقنوا بغموض المستقبل وشقاء الإنسان وكذبة الحداثة الكبرى وما بعد الحداثة والكذبة الأخرى.
"الهمجية الرأسمالية الذكية" ليست نتاجا للعنف والحروب والدمار فقط، ولكنها أيضا نتيجة لنزع الصفة الإنسانية والاغتراب الذاتي والاغتراب الموضوعي اللذين يميزان الحداثة وما بعد الحداثة بما في ذلك مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا الذكية. كما تؤكد البحوث والدراسات حول موضوع الهمجية في التاريخ الغربي والحضارة الوهمية والجوانب المدمرة لهياكلنا الاجتماعية والثقافية والوجودية بسرعة غير مسبوقة. ناهيكم، وجوه "الهمجية الذكية" العديدة من التعصب الديني إلى الاستعمار إلى الشمولية وتشابك هذه الأشكال المختلفة من صراع وتوحش الهمجية الرأسمالية مع ( بعضها بعضا ) ومع الاتجاهات التاريخية الأوسع واستخدام جميع أسلحتها الذكية.. من الأسلحة البكتيرية مرورًا بالأسلحة الفيروسية وصولًا إلى الأسلحة النووية.. من التجارب إلى الإستراتيجيات إلى الحروب إلى الأهداف إلى الإصابات المباشرة.. الإصابات القاتلة.
هل تموت الثقافة؟ الجواب نعم.. أما كيف ومتى تموت الثقافة، فلعلّنا جربنا موت الثقافة فعلا في عصرنا هذا عصر الرأسمالية الهمجية. أصبحنا نعيش في عالم لا يفهم معنى الثقافة – ثقافة وقود واوكسجين الاستمرارية الوجودية، ولا يفهم دورها في تطوير وتطور الأمم والمجتمعات، بل أصبحنا جميعًا في الأزمنة الذكية نستبعد أي دور للثقافة في بناء الإنسان والمجتمع، وخاصة من هو معني بالثقافة، ونعني بذلك النخب، النخب السياسية التي أصبحت أول من لا يعترف بالثقافة ولا يهم بها ولا يرعاها، ولذلك لا يشعر بموتها وموته وموتنا التدريجي جميعًا.
في عالمنا المعاصر، هناك قطيعة بين الثقافة والقادة السياسيين أنفسهم، فهؤلاء أما لا يهتمون بالثقافة ولا يرعونها بسبب جهلهم لها ولدورها في الحياة، وأما أنهم يفهمون هذا الدور جيدا، لكنهم يتخوفون من الثقافة، كونها تضخ دماء الوعي في الفرد والمجتمع، وهذا يعني أن الطبقة السياسية سوف تكون مهددة أينما وجدت بوعي الفرد.. ووعي المجتمع.. ووعي التغيير.. ووعي الضرورة.. ضرورة الوعي.. ضرورة التغيير.. والتطور المستمر
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.