ناظم الخوري*
المرحلةُ المقبلة على لبنان تحمل في طيّاتها تحدّياتٍ كبرى تتطلّبُ خطواتٍ جريئة تتجاوزُ حدود الإنقاذ لتُلامِسَ آفاق القيامة الوطنية الحقيقية من خلال رؤيةٍ جماعية جديدة تُواكِبُ طموحاتَ الشعب وآماله بمستقبلٍ أفضل.
يَنظُرُ العالم للبنان كنموذجٍ للتعايُش يتقاطَعُ مع التوصيفِ الذي أطلقه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني “وطن الرسالة”. ميزةٌ وَلّدتها صيغةُ الشراكة التي انبثقت عن الميثاق الوطني مُكرِّسةً ثوابت تجمعُ بين مكوّناته، والتي لا تزال، صالحةً كأساسٍ لبناءِ لبنان لا سيما لجهة المشاركة في الحُكمِ وتوزيع السلطات في أُطُرٍ ميثاقية تتيح لجميع الأطياف إدارة شؤون البلاد معًا.
تبنّى اتفاقُ الطائف روحيةَ هذا الميثاق وأُسُسَ العيشِ المشترك، ولا يزال اللبنانيون يجمعون على اعتبارهما ركيزة لتفاهماتهم رُغمَ عدم تطبيقه بالكامل، فهو لم يُحتَرَم لا في مسار الانتخابات، ولا في توزيع السلطات، ولا في تقوية الدولة. وعليه، باتَ بحاجةٍ إلى إعادة نظر في بعض مواده لتحسين مضمونه بما يتلاءم مع التطوّرات، لا سيما وأنَّ المُمارسة السياسية اللاحقة تقصّدت تعطيله وتجميد الدستور اللبناني برمّته. وهنا تكمُن محورية الحوار الوطني الدائم بين جميع أطيافه وهو حاجة لحسن تطبيق الدستور وصيانة الميثاقية.
بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، أطلق الرئيس نبيه بري الحوار لمعالجة الانقسامات. وتبلوَرَ هذا المسار في عهد الرئيس ميشال سليمان، الذي نجح في مأسسة الحوار الوطني فأسفر مسعاه عن ولادة “إعلان بعبدا” بموافقة جميع الأطراف، والذي عرقلته الأحداث في سوريا، نتيجة قرار “حزب الله” المنفرد في خوض معتركها. إنَّ إعادةَ إحياء ثوابت لبنان الوطنية، وتطوير آليات تطبيق اتفاق الطائف، مع التمسُّك برسالته الحضارية، تُعَدُّ أولويّات ملحّة في ظلِّ المُتغيّرات في المنطقة والعالم والأزمات الوجودية التي تُهدّدُ كيانه.
التحدّي اليوم هو استثمارُ هذه التجربة لتحويل التنوُّع اللبناني إلى قوّةٍ نموذجية. يتطلّبُ ذلك تشكيل مجموعات عمل من النُخَب الأكاديمية والديبلوماسية والاقتصادية والفكرية… تكون نواة فكرية وبحثية (Think Tank) تعمل على رؤى استراتيجية مُبتكرة لإعادة إحياء الدولة بما يتماشى مع الحوكمة الرشيدة ومتطلّبات العصر.
أمام فشل أدائهم السياسي، المطلوب من القيادات دَعمُ هذه الكفاءات التي تمتلك الطاقات والمعرفة والخبرة لكن القوانين الانتخابية التي اعتُمِدَت أخيرًا، منعتهم من تولي المواقع والمشاركة الفعلية في الحياة السياسية. والمطلوب أيضًا من هذه النخب وَضعُ أُسُسٍ لرسالة لبنان ودوره إنطلاقًا من النضج المجتمعي لاختيار قيادة قادرة على مواجهة المرحلة.
مع وجوبِ انتخابِ رئيسٍ للجمهورية لقيادة البلاد، من المُلِحّ أن تقومَ هذه النُخب، بمساعدته، كفريقٍ استشاري، يعملُ على صياغة دور جديد للبنان الرسالة أي “Mission Statement”. والمطلوب اليوم حملة وطنية تستنهضُ الطاقات وتُعيدُ للبنانيين الثقة والحيوية. وهو ما نلحظه في دعوة الصحافي الصديق غسان الحجار في مقالته في صحيفة “النهار”، ونؤيده في إكمال هذا المسعى مع التمنيات بأن تبادر هذه المؤسسة الصحافية العريقة بالدعوة إلى إنضاج هذه الآلية وتبنّيها.
إنَّ المهمة المرتقبة للرئيس المقبل، أيًا تكن كفاءته، ليست مسؤولية فردية، بل جهد جماعي يتطلّب تحصينه من ضغوطٍ تُحيطُ به وتأمين بيئة عمل قائمة على التعاون في مواجهة خطر الزوال.
*وزير ونائب لبناني سابق
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.