انتهت الحرب في العراق، بالنسبة لـالإدارة الاوبامية، ولم تنته الحرب في العراق. القوات الأميركية المقاتلة انسحبت بهدوء منظم. لم يكن ينقص هذه القوات سوى السير في عرض عسكري. لم تطلق النار على القوات، في وقت كانت السيارات المفخخة تنفجر في العراقيين الأبرياء والمسالمين، وقوافل الانتحاريين يستعجلون رحلتهم إلى جهنم، بتفجير أنفسهم وسط المدنيين لا يميّزون الأطفال من النساء والرجال، في حين عرفوا بدقة كيف يتفادون الجنود الأميركيين، مؤكدين بذلك ان حربهم هي من أجل السلطة وليس لتحرير العراق.
هذا الخروج الأميركي المنظم ليس فيه ما يشرّف الولايات المتحدة الأميركية. فالقوات الأميركية المقاتلة غادرت العراق وهو في قلب أزمة سياسية غير مسبوقة، تضعه على حافة العرقنة الواسعة والشاملة، وفي قلب تجاذبات اقليمية لا بد أن ترفع من حرارة الوضع وتعرضه لمزيد من التعقيدات. بعد ستة أشهر على الانتخابات التشريعية ما زال العراق بلا حكومة، ولا حتى رئيساً مكلفاً لتشكيل الحكومة، ولا يبدو في الأفق أي حل للأزمة، خصوصاً وأن امكانية تراجع أي من القوى والأحزاب عن مواقفه لا يبدو وارداً، علماً ان الحل يتطلب من الجميع تقديم تنازلات مؤلمة ومتبادلة.
غياب الحل الوسط، أفشل حتى الآن انعقاد مؤتمر الطائف العراقي في دمشق. العقدة كما بدت، غياب الموافقة الإيرانية على انعقاده. لم يكف الاتفاق السعودي السوري التركي المستند إلى موقف أميركي إيجابي جداً. طهران قالت لا، ونجحت في تعطيله. أثبتت بذلك أنها تملك أوراقاً عراقية عديدة، في الوقت نفسه تأكد مرة أخرى ان القدرة على التعطيل لا تعني المقدرة على الحل. طهران لا تستطيع فرض الحل الذي تريده. الحل الاحادي مستحيل. المشكلة ان على طهران التعامل مع الولايات المتحدة الأميركية والعكس صحيح. الطرفان يشد الحبل لجهته، لتسجيل النقاط لصالحه ضد الطرف الآخر في ملفات أخرى أهمها الملف النووي.
هذا العجز، هو الذي يدفع باتجاه الانحدار نحو التصعيد الأمني. لا أحد بريء من هذا التصعيد. إن لم يكن في التنفيذ فعلى الأقل في تعطيل الحل. المسؤولية مشتركة وإن بدرجات. أمام ذلك كله يبدو التشاؤم سيد الموقف والخوف والتحذيرات من أسبوع دموي جديد واقعي جداً، لا بل انه كلما طالت الأزمة، كلما تعدّدت الاسابيع الدموية القاتلة المقبلة.
تكافؤ القوى العراقية الأربع في الوجود والتعطيل زائد تكافؤ القوى الاقليمية الأربع في النفوذ سواء بالتحالف أو الاحادية، إضافة إلى حضور أميركي يريد الحل لكنه غير قادر على فرضه من جهة، ويرفض النفوذ الإيراني ويحاربه لكنه غير قادر على إلغائه فكيف بالانتصار عليه من جهة أخرى.
كل ذلك يرفع من منسوب العجز ويزيد من سرعة الانحدار نحو التصعيد الأمني، حتى تستسلم كل القوى أمام اقتراحات أخرى لا بد أن تكون في اطار طائف عراقي جديد. لقد تلبنن العراق إلى درجة لا يمكنه ضمن المستقبل المنظور الهرب من قدره الملبنن.
محاولات جدّية جرت لعقد تحالفات جديدة، في كل مرة تبين ان نجاحها مستحيل حتى ولو بدت واقعية جداً. التحالف بين نوري المالكي واياد علاوي أي بين دولة القانون والعراقية، يضع المجلس الإسلامي وآل الحكيم والصدريين خارج السلطة. لو كان الهدف تثبيت الديموقراطية لتتشكل معارضة فعالة على طريق التبادلية، لكان ذلك أمراً عظيماً، لكن الهدف هو الإلغاء من الخريطة السياسية عبر التهميش والعزل. لا يمكن لآل الحكيم بكل حضورهم الشرعي والتاريخي أن يستسلموا لهكذا حل. كذلك لا يمكن للسيد مقتدى الصدر القبول بالمالكي زعيماً على العراق مع احتمال ان يشكل مستقبلاً صيداً سهلاً تتم تصفيته سياسياً وربما أكثر، وسط لا مبالاة جدّية. أيضاً لا يمكن للتحالف الآخر بين علاوي والائتلاف الوطني أي آل الحكيم والصدريين أن ينجح بسهولة لأنه يعني تهميش حزب الدعوة وليس فقط إبعاد المالكي، حتى ولو كان حزب الدعوة مفتتاً وضعيفاً من الصعب أن يقبل إنهاءه بسهولة، والذي يعني حكماً قصقصة أظافر لإيران.
الامكانات المطروحة عديدة منها: حل البرلمان الحالي الذي لم يقم بدوره التشريعي حتى الآن، والإعلان عن إجراء انتخابات جديدة. مثل هذه الانتخابات ستفرض حكماً صياغة جديدة للتحالفات ولتشكيل القوائم، مما سينتج عنها برلمان مختلف يقوم على قوتين احدهما تحكم والثانية تعارض. لكن حتى هذا الحل يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلاً. التحالفات لتشكيل قوائم انتخابية جديدة لن تخرج عن صيغة التحالفات المعروضة حالياً لتشكيل الحكومة، أي تحالف بين علاوي والحكيم والصدر، ما يعني تهميش حزب الدعوة وليس إلغاء المالكي وحده. لا الحزب سيقبل بذلك، ولا إيران مستعدة لتقبل هذا الحل، لذا تبدو القضية مثل قصة ابريق الزيت الشعبية. البداية نفسها من دون نهاية.
لبنان كان وما زال علبة بريد لكل القوى الخارجية. الرسائل تصل إليه مضمونة. أحياناً تدفع أطراف داخلية ثمن هذه الرسالة أو تلك، وفي كل الأحيان يكون المواطن العادي مَن يدفع، سواء من لقمة عيشه أو دمائه وفي أغلب الحالات من أعصابه. ليس اصعب على أي إنسان أن يستمر لسنوات في الرقص فوق صفيح ساخن، لأن بيته من عدة بيوت ووطنه علبة بريد.
العراق أكبر من أن يكون علبة بريد. موقعه وغناه يجعلان منه أكبر جائزة للقوى المتصارعة عليه وحوله. لكن أن يكون العراق قلب منطقة الشرق الأوسط، ونقطة القطع والوصل في مربع أضلعه: إيران وتركيا وسوريا والسعودية، لا يمنع مطلقاً من استمرار الضغط المتبادل، خصوصاً وأنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تبدو مستعجلة حالياً على الحل. همّ واشنطن تطويق النفوذ الإيراني الذي فتحت الأبواب أمامه عندما أسقطت نظام الرئيس صدام حسين من دون أن تضع خريطة طريق من أجل عراق آمن ومستقر. من الصعب جداً القول حالياً هل كان الموقف الأميركي عن سابق تصور وتصميم، أم أنه جاء نتيجة لغباء القوة عندما يمسك بها رئيس من حجم ونوعية جورج بوش؟
التشاؤم يدفع إلى اليأس، خصوصاً إذا كان نتيجة للعجز العميق والحقيقي. في بلد مثل العراق، حيث كل سياسي صدام حسين صغير، قد يتحوّل الجيش وجنرالاته إلى خشبة خلاص، علماً انه قد يُنتج كما حصل بعد العام 1958 صليباً أقسى للعراقيين. لا شيء مستحيلا في لعبة الأمم، كل شيء ممكن حتى غير الممكن.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.