التوقيت الشديد الترتيب لعملية الخليل ضدّ مستوطني كريات أربع، لا تترك مجالاً للبحث حول تصنيفها، ووضعها في خانة المقاومة غب الطلب على مثال شيك غب الطلب أي أنه يدفع فور تسليمه. هذه المقاومة ليست جديدة ولا حديثة ولا طارئة. وقع الكثير منها، في أوقات مختارة بعناية. لم يكن القصد منها عدد الذين يقتلون ولا الذين يستشهدون، أهدافها في ذاتها، أن تقع العملية وتحدث الانفجار المطلوب على طريق إيصال رسائل معينة في اتجاهات محددة سلفاً. الصمت الذي ساد منذ القرار بالذهاب إلى واشنطن كان يخبئ عملياً أصوات مثل هذه العملية. كثيرون كانوا يتوقعون أن يصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى واشنطن أضعف مما هو ضعيف لتأكيد فشله المعلن أصلاً، وأن يكتمل هذا الفشل الفلسطيني، بفشل أميركي يذكّره بوجود أولويات وأولياء أمور عليه أن يسألهم ويستشيرهم ويعلمهم أن ملفاتهم على النار وليست على الرف بانتظار ما سيحدث في واشنطن.
حركة حماس المقيمة في امارة غزة سعيدة بالسلطة والهدوء وانتشار الفقر وانسداد آفاق الحلول، سارعت لتبنّي عملية الخليل، وكأنها بداية لمسار خلاف للمقاومة، علماً ان عملية أحادية مثل هذه، تبقى نتائجها محدودة جداً ومردوداتها بخسة وارتداداتها على الضفة الأخرى التي أرادتها.
قمة واشنطن ستنعقد اليوم، ومحمود عباس أكثر ضعفاً وبنيامين نتنياهو أكثر قوة. الإسرائيليون تبادلوا التنازلات حتى يدخل نتنياهو قاعة المفاوضات وهو أكثر حضوراً وقوة. الحاخام عوفاديا يوسف الذي تمنى زوال الفلسطينيين وموتهم قبل 24 ساعة، عاد ومنح نتنياهو مجالاً للتنفس في القضية التي يجد نفسه محاصراً فيها وهي الاستمرار في تجميد المستوطنات، عوفاديا يوسف قبل استمرار التجميد خارج كتل المستوطنات الأساسية.
الواقعية السياسية دفعت مختلف القوى الإسرائيلية، إلى دعم نتنياهو وفي الوقت نفسه تحذيره من الذهاب إلى المفاوضات وكأنه ذاهب إلى الحرب. لا أحد يجادل في قدرة وقوة إسرائيل. المشكلة كما بدأت تعتقد حلقات مهمة ومؤثرة داخل دوائر القرار الإسرائيلية انه بعد انتصارها لأنها الأقوى لن يكون هناك سلام أو مصالحة، بهذا يكون المنتصر هو الخاسر الرئيسي. دليل هؤلاء إلى هذه الخلاصة قضية قافلة السفن التركية. خسرت إسرائيل الكثير داخل الرأي العام الدولي أما الخسارة الكبرى فهي انكسار حلفها التاريخي مع تركيا. لذلك كله تركزت الدعوات في إسرائيل لأن لا يدخل نتيناهو إلى قاعة المفاوضات بذهنية حربية خصوصاً وان البديل تحول الضفة الغربية إلى غزة أخرى.
حماس أرادت العكس؛ أولاً أن لا يذهب عباس إلى المفاوضات رغم ان هذا الرفض يعني رفض العاجز لأنه لا بديل لرفضه ولا خطة لديه يقدمها لمواجهة ارتدادات ما سيحصل خصوصاً في واشنطن وانحدار الرئيس باراك اوباما إلى اليأس بعد الإحباط. وفي حالة الذهاب فإنّ حماس أرادت أن يكون عباس أكثر ضعفاً فإذا استسلم خوّنته وإن رفض عاد مستسلماً لمصيره. بهذه البساطة يتم بناء مصائر الامم ومعالجة قضية مصيرية وقومية مثل القضية الفلسطينية. أسوأ من ذلك، حماس تريد تجيير هذا الفشل لمصلحة خط الممانعة. النتيجة الآخرون يكسبون نقاطاً لصالح قضاياهم وملفاتهم، والفلسطينيون يخسرون في كل شيء. الخسارة الكبرى انهم ورقة في يد الآخرين بدلاً من أن يجيّروا كل القوى لمصلحة قضيتهم.
مهما بالغت حماس في الرفض والممانعة، وتحميل إسرائيل مصائب أهل غزة العراة في الخيم لأنه لم يسمح لهم ببناء منازلهم المهدّمة في حرب الرصاص المسكوب، لا يمكن لـحماس وغيرها تجاهل حالتين متقدمتين، واحدة في الضفة الغربية والثانية داخل إسرائيل نفسها. في الضفة حكومة سلام وفياض التي مهما ألصق بها من صفات التخوين وباقي المعزوفة المعروفة جيداً من الجميع، فإنها حققت تقدماً ملحوظاً على الصعيد الاقتصادي، فقد وجد فياض معادلة متينة للأمن والاستقرار والنمو. الجوع لا يخلق مقاومة ناجحة وقادرة على تحقيق الانتصار. أيضاً البناء وتصليب المجتمعات يدفع إلى بناء القدرة على المواجهة خصوصاً إذا ما كان الشعور الوطني والقوي قائم وهو قائم لأن الاحتلال الإسرائيلي يذكر الفلسطينيين يومياً بقضيته وبحقوقه السليبة.
الإدارة الأوبامية جادّة في التوصل إلى نجاح ولو محدود في هذه المفاوضات. الحل النهائي قد يتطلب عشر سنوات أخرى، أي يجب انتظار رئيس أميركي جديد. كل هذا يدل على حجم الواقعية السياسية الذي تتمتع بها الإدارة الاوبامية. لم يقل اوباما انه سيحقق السلام الشامل وانه سيحضر احتفالات اعلان الدولة الفلسطينية فوراً ولا حتى خلال ولايته الرئاسية. الراعي الأميركي سيكون حاضراً في جلسات المفاوضات. تريد واشنطن الخروج بإعلان الى وسائل الاعلام يتضمن تفاصيل بشأن مسار المفاوضات، بهذا تتأكد الجديّة. عملية الخليل لن توقف المفاوضات، ولا حتى عملية أخرى أكبر أو أصغر. أوباما يريد دمج مفاعيل انسحاب قواته القتالية من العراق بالتقدم خطوة على طريق الألف ميل على المسار الفلسطيني الاسرائيلي.
رغم إقرار بعض القوى الفلسطينية بعبثية توقيت عملية الخليل، الا انها تقرأ فيها ايجابيات يمكن لعباس استثمارها كما أنها تشكل رسالة للادارة الأميركية عن حقيقة الوضع والموقف الحقيقي في الضفة الغربية. عملية كريات اربع في الخليل مهمة سياسياً بمعنى أن مستوطني الخليل هم الكتلة المتصلبة منهم لأنهم لم يقيموا مستوطنة كريات اربع ومثيلاتها لأسباب اقتصادية وانما لأسباب ايديولوجية وفكرية، وهم بذلك الكتلة الأصلب ضد التسوية. لذلك فإن اعتداءاتها على الخليليين الصلبين يومية وقاسية وأحياناً تصل الى حد العربدة السياسية والأخلاقية معاً.
رغم أن العملية قد تحدث ردة فعل سلبية داخل المجتمع الاسرائيلي الا انها على المدى الطويل تساهم برأي هذا الفريق في تغذية المعارضة الاسرائيلية للمستوطنين. ولا شك ان الحملة التي انضم اليها أكثر من 130 أكاديمياً بعد الممثلين والفنانين بعدم النشاط داخل المستوطنات التي تقع خلف الخط الأخضر، ستجد في هذا الرفض الفلسطيني العنيف حجة اضافية لانجاح حملتها السلمية تحت شعار الالتفاف على العنف المتصاعد والنامي وعدم تحوله من عملية محدودة الى حالة جماعية، تعمق خنادق الرفض المتبادل بالدماء.
جولة مفاوضات واشنطن خطوة مهمة ولكنها ليست سوى بداية متعثرة لا فائدة من الرفص اذا لم يكن مقترناً بخطة بديلة خصوصاً انه كان ويبقى متقاطعاً مع انتظار تطورات ومواقف اقليمية تخص اللاعبين الآخرين في المنطقة وليس قضيته.
أما آن للفلسطيني أن يمسك الحجر بيد ليرميه بنفسه، بدلاً من أن يبقى أحجاراً بيد الآخرين يبنون منها متاريس لأنفسهم ومصالحهم!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.