نادراً ما أجمع اللبنانيون على أمر. كل الأمور بالنسبة اليهم قضايا. لكل قضيّة باب عالي، يقع في عاصمة عربية أو اقليمية أو دولية، ومنطلقه داخلياً فئوي أو طائفي أو حزبي، وفي أحيان معينة يتم الجمع من كل ذلك ما يصنع للقرار ما لم يصنعه الحدّاد. اليوم يجمع اللبنانيون على الترحيب بزيارة رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي، قد لا يكون هذا الإجماع بالدرجة ذاتها بين مختلف مكونات اللبنانيين. المهم أنه يوجد إجماعا لا يجعل من زيارة أردوغان زيارة لجزء من اللبنانيين على حساب غيرهم من اللبنانيين. لذلك يقول اللبنانيون كلمة نسوها بفعل التاريخ، ويستعيدونها الآن بفعل الحاضر والتطلّع إلى المستقبل: هوش غيلدينيز.. أهلاً وسهلاً.
دعوة أردوغان إلى نفض دعائم مجتمع الخوف اللبناني، وحدها كافية للترحيب به ألف مرة. لبنان اليوم هو جمهورية الخوف بلا منازع، ليس بسبب ديكتاتور واحد وإنما بسبب حملات التخويف اليومية بنسف أمن اللبنانيين واستقرارهم إلى درجة انها قطّعت وتقطّع سبل العيش وسعيهم للرغيف الساخن الحلال. أسوأ وأخطر من الحرب، التهديد بالحرب في كل ساعة، لشعب عانى وعاش حروباً عدة أكثرها ألماً الحروب الأهلية الباردة منها والمشتعلة على السواء. ما يقوله أردوغان بأن شيوع بعض الأمور أسوأ من وقوعها، ترجمة حقيقية وواقعية وشفافة لما يعيشه اللبنانيون من التحذيرات اليومية بالفتنة، طلباً لدفع أثمان لا قدرة ولا مقدرة لهم على دفعها أو ردّها عنهم.
أهمية هذا الموقف التركي أنّه ليس مجرّد حضارة صوتيّة تنتهي مفاعيلها في قوّة صداها. لأردوغان خريطة طريق واضحة يعمل على أساسها تنطلق من الدور الاقليمي المتصاعد لتركيا في منطقة الشرق الأوسط. لتركيا اليوم دور إيجابي في كل الدوائر والملفات، من العراق إلى سوريا مروراً بلبنان وفلسطين، وبالتواصل دون التنافس والتزاحم مع الجمهورية الإسلامية في إيران. من تفاصيل هذه الخريطة:
[ انّ تركيا تقف إلى جانب اللبنانيين وستبقى إلى جانبهم.
[ ستقوم تركيا مع كل دول الجوار بكل شيء لمنع الفتنة. وما لم يقله أردوغان بالتفصيل تقوله الديبلوماسية التركية المتحرّكة. أنقرة توجّه دائماً رسائل إلى العواصم التي لها مكانة أو دور في لبنان، والمقصود بها دمشق وطهران الدعوات لعدم التدخّل في الشؤون اللبنانية في شكل يؤثّر على استقلال لبنان وسيادته والمحافظة على استقراره الأمني والسياسي.
ربما أنقرة هي العاصمة الاقليمية الوحيدة التي تستطيع أن تخاطب دمشق من موقع الحليف الاستراتيجي بدون تحفظات ولا تردد. تستطيع طهران أيضاً مخاطبة دمشق من الموقع نفسه. لكن قوّة أنقرة انها ليست على علاقة قائمة على الايديولوجية، وإنما على قاعدتي الجوار الجغرافي والواقعية السياسية. الأساس في هذا الموقف التركي القوي، انه خارج من معادلة مستجدة تتدعم يومياً بفعل التطورات في المنطقة. الأساس في هذه المعادلة أن أمن لبنان من أمن الشرق الأوسط والعكس صحيح. لم يعد في زمن الفتنة المذهبية حدود تقفل الدول والدوائر عن بعضها البعض. في زمن تنمو فيه القاعدة على دماء الشعوب المتناحرة مذهبياً، كل الحدود قابلة للخرق والحرق. في الماضي جرى ضبط الحروب الأهلية وحتى الحروب مع إسرائيل داخل لبنان لعدة عقود. اليوم لا يمكن إقفال لبنان المشتعل عن محيطه يوماً واحداً. رجب طيب أردوغان واع وعياً كاملاً للخطر المتولد عن وقوع أي فتنة مذهبية سنّية شيعية في لبنان، لذلك يعلن التزامه الحفاظ على لبنان واستقلاله وأمنه واستقراره، وأيضاً من باب الدفاع المشروع عن المنطقة كلها وخصوصاً دول الجوار ومنها تركيا العمل بكل شيء مع دول جوار لمنع مثل هذه الحرب. في هذه المهمة وهذا الدور لا تنتظر تركيا طلباً للتدخل كما يمكن ان يكون الأمر في قضايا أخرى. تركيا جاهزة للتدخل وهي فعلاً تقوم بذلك في كل اتصالاتها للحؤول دون ذلك. أمام هكذا التزام سياسي من دولة اقليمية بحجم تركيا، لا يمكن للبنانيين وهم يعيشون على وقع الخوف يومياً إلا أن يجمعوا على الترحيب بدور تركي لا يجعل منهم ملفاً أو رهينة يستثمره في تقوية موقعه على طاولة المفاوضات أو يقايضه بثمن لا يدفعه من كيسه.
يبقى ان رجب طيب اردوغان بعد ان زار أهله في الكواشرة العكارية. يزور ايضاً جنوده العاملين في اليونيفيل في الجنوب. الزيارة الثانية ليست عائلية فقط. إنها زيارة سياسية بامتياز. في وقت تردد باريس قلقها وخوفها من وقوع اعتداءات على جنودها العاملين في اليونيفيل، يوجّه اردوغان رسالة لكسر الخوف الفرنسي وغيره على قوات اليونيفيل دون إسقاط الجاهزية والتحسّب من أي اعتداء سواء طال الفرنسيين أو غيرهم لأنه يطال حكماً كل جسم اليونيفيل.
أهمية الدور التركي الصاعد انه مرحّب به عربياً ودولياً، لأنه دور إيجابي يعمل على المشاركة في تعويض الضعف العربي بدلاً من استثماره لتقوية موقعه. تركيا ليست مؤسسة خيرية لتقوم بما تقوم به، دون مقابل. لتركيا مصالح ومصلحة حقيقية في هذا الدور. كلما نجحت فيه تعملقت في المجتمع الدولي وخصوصاً في وجه الاتحاد الأوروبي الذي أبعدها، وفي الوقت نفسه أصبحت أكثر من ضرورية للولايات المتحدة الاميركية، بعد أن زال دورها كستار حديدي يحمي الخاصرة الغربية في مواجهة الاتحاد السوفياتي. هذا هو فن السياسة الذي يخلق أدواراً لصانعيه، بدلاً من الغوص في الحزن على دور سقط.
مادامت تركيا تقوم بهذا الدور، لرجب طيب اردوغان وغداً الرئيس عبدالله غول القادم إلى لبنان يقول اللبنانيون مدعومين من كل العرب الذين يريدون استقلاله وسيادته وأمنه واستقراره: هوش غيلدينيز...
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.