القرار الاتهامي، خطوة إلى الأمام. حالة الشك عُلِّقت بانتظار خروج كل شيء إلى العلن. ما حصل هو اتهام وليس ادانة. المتهمون أبرياء حتى تثبت ادانتهم. المهم، ان آلة المحكمة بدأت بالعمل. الإجراءات اللاحقة ستؤكد جدّيتها وشفافيتها المطلوبة مئة بالمئة. التوفيق بين العدالة والاستقرار مهم لا بل مصيري للبنان. السلم الأهلي بلا عدالة سيبقى بلا حياة معلقاً على أي حدث لاحق. والعدالة بلا السلم الأهلي لا قيمة لها. ما النفع من الدواء إذا كان الداء سرطانا مستشريا. تثبيت هذه المعادلة يعني تنظيف الحاضر من أوساخ الماضي، وإعلانا واضحا لبناء مستقبل تستطيع الأجيال المقبلة أن تنعم بالحرية والاستقلال من دون خوف من كاتم الصوت والسيارات المفخخة. مثل هذه الحرية تضع الشعوب القادرة على مواجهة الأعاصير حتى ولو كانت خارجية في منطقة لا تعرف من الثوابت إلا النادر منها في حين انّ المتغيرات هي التي تحرّك المجتمعات.
حتى الآن هذا القرار الاتهامي ناقص. لقد أضاء على قاعدة الهرم بصرف النظر عن صحة الاتهامات أو عدم صحتها- وترك الباقي غارقاً في الضباب والأسئلة. ماذا عن الذين حرّضوا وخطّطوا وموّلوا وحضّروا المسرح لارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وباقي شهداء 14 آذار؟.
من الواضح أنّ المسار الأول لصدور القرار يأخذ في الاعتبار الوضع الدقيق والحساس للبنان. من المهم جداً هذا التركيز الدولي على ان اتهام الأربعة لا يعني اتهام حزب الله ولا الطائفة الشيعية. بهذا يتم ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام حزب الله للتعامل بهدوء، كما انه من المهم جداً أن قوى 14 آذار بعد أن شعرت بأن قطار الحقيقة قد انطلق، تركت السكة مفتوحة أمامه دون إثارة للشارع. هذا التعامل الهادئ ضروري جداً للبنان وهو ملحّ كما لم يكن في السابق، بسبب الرياح الساخنة للربيع العربي.
تعامل الحكومة التي يرأسها الرئيس نجيب ميقاتي مع القرار الاتهامي والقرار الظني والمحكمة سيبقى تحت المراقبة. البرلمان اللبناني، سيمنح هذه الحكومة الثقة، لكن المجتمع الدولي خصوصاً باريس، رفع بطاقة صفراء في وجه الحكومة لأنه أبقى ثقته معلقة على مدى احترام هذه الحكومة لتعهداتها. أكثر من ذلك ان الحكم على الحكومة اللبنانية سيكون على أفعالها وليس بيانها ولا أقوالها. أي تغيير في علاقاتها مع المحكمة يعني حكماً رفع بطاقة حمراء في وجهها، ما يعني ذلك من إجراءات قاسية جداً. الرئيس ميقاتي قادر على تدوير الزوايا مع تقديم تنازلات مقبولة منه. المهم ألا ينزلق في تقديم التنازلات الى حافة الهاوية، خصوصاً وأنه في آذار من العام القادم سيكون أمام اختبار دقيق أمام المجتمع الدولي وهو مسألة تمويل المحكمة الدولية ومشاركة لبنان بنسبة 49 في المئة من هذا التمويل.
عدم فكفكة هرم القرار الاتهامي بالكامل يعود الى أخذ ما يجري في المنطقة بالاعتبار. عدم تسمية أي متهم سوري حالياً لا يعني اقفال قرار الاتهام، وانما التوجه نحو عدم الخلط بين التطورات الداخلية السورية ومسار القرار الاتهامي أولاً، ومن ثم مسارات المحكمة الدولية، هذا الفصل حالياً مهم جداً لأنه يؤشر الى رغبة دولية للفصل بين الحدثين. من الأفضل ان ينضج الوضع في سوريا على نار سورية.
العدد المحدود للضحايا في مظاهرات الجمعة لا يعني تراجع الشارع السوري عن التظاهر ولا النظام عن المواجهة، يبدو أن حالة من الاختبار تسود الحالة السورية. في الوقت الذي يسبق الشارع فيه النظام وأحزاب المعارضة من المهم جداً مراقبة جدية توجهات الطرفين. باختصار معرفة مدى جدية النظام بالخروج من الحل الأمني الى رحابة الحل السياسي من جهة، ومن جهة أخرى مدى قناعة الشارع السوري بهذه الجدية.
أمام دمشق نظام وشارع ومعارضات شهراً كاملاً لاختبار الخيارات. إذا لم تتم عملية بناء جسور الثقة في ما بينها فإن شهر رمضان الموافق في آب القادم سيكون شهر الامتحان الأكبر والحقيقي. كل يوم رمضاني سيشكل فاصلة وربما صفحة في صياغة مستقبل سوريا.
أما في لبنان، فإن من مصلحة كل الأطراف خصوصاً حزب الله - بعيداً عن حجم الإحراج الذي يعاني منه مهما أسقطه علناً من حساباته- الهدوء والتهدئة. ليس سهلاً على الحزب أن يتم توجيه الاتهام الى مجاهدين عنده باغتيال رئيس وزراء لبنان كان يريد حصول لبنان على استقلاله وسيادته مع بقاء علاقات مميزة مع سوريا. الأصعب أيضاً ان تثار المذهبية في زمن تراجعت فيه كل دعاوى القومية العربية والوحدة العربية أمام التفرقة الطائفية والمذهبية، والأخطر من كل ذلك ان يأتي هذا كله في وقت تتساءل فيه كل القوى ومن ضمنها حزب الله ماذا عن الغد، وماذا إذا تغيرت خارطة النظام العربي وحتى الإقليمي، وبالتالي المواقع والتحالفات والمحاور؟
الجواب بسيط: من الأفضل تقديم تنازل محدد يحفظ السلم الأهلي على الخسارة الكاملة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.