.. وفي الذكرى المئوية لوعد بلفور، وما نتج عنه من ولادة الكيان الإسرائيلي، تُحضّر موسكو لانعقاد مؤتمر الشعوب السورية في قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية أو في سوتشي في روسيا. طوال القرن الذي يمتد من وعد بلفور الى اليوم، كانت الوحدة شعاراً والانفصال خيانة، والتمزق مؤامرة يجب إسقاطها، فإذا بسوريا قلب العروبة النابض في حالة الكوما، والشعب السوري العربي الذي اقترع لأول وحدة عربية حيّة مع مصر وبقيادة جمال عبد الناصر، بنسبة حقيقية اجماعية وواقعية تقريباً، يصبح طموحه المحافظة على وحدته ولو في صيغة تعددية كريهة من نوع الشعوب السورية.
هذا الانحدار الى الهاوية، لم يحصل لولا التناحر بين نظام مستأسد من أجل البقاء في السلطة مهما بلغت كلفة الحروب التي يخوضها، ومعارضات متزاحمة على أبواب القوى الخارجية، يكفي لتقدير حجم التنافس، أنّ المسعي الروسي لانعقاد مؤتمر الشعوب السورية، أن عدد ممثلي المعارضة (وليس جميعهم) يصل الى 1200 ممثل.
هذا التمزق السوري، يوازيه وربما يزيد عليه التمزق الخارجي. روسيا تسعى ضمن مفاهيمها ومعلوماتها لاستعادة سوريا حتى ولو أعادت تشكيلها على قاعدة خلق سوريا فرانكشتانية (من فرانكشتاين) وواشنطن سلّمت لموسكو المهمة وتتولى وضع العصي في دواليبها في كل مرة تجد أن مصالحها غير مضمونة أو معرضة للإهمال.
الجديد، أنّ إسرائيل التي كان ذكرها دون الإشارة الى كونها الكيان المغتصب خيانة، هي اليوم وبعد مائة عام على وعد بلفور، طرف أساسي في إعادة تشكيل سوريا. كانت إسرائيل وحتى وقت قريب حاملة الطائرات الأميركية الثابتة. وكانت مصر وسوريا ومعها دول عربية عديدة حليفة لموسكو
والمعسكر الاشتراكي في حين أنّ العلاقات الروسية – الإسرائيلية محدودة جداً في العلن. ربما في السرّ كانت توجد علاقات لكن من دون تعاون عسكري وأمني. أما الآن وفي هذه الذكرى الأليمة، فإن إسرائيل تتمتع بالتحالف الوثيق مع موسكو كما مع واشنطن. حالياً يقال في إسرائيل إن العلاقات مع روسيا هي رصيد استراتيجي لبلادهم.
إسرائيل تتحرك في سوريا تحت المظلّة الروسية. يدها الطويلة تطال الكثير من المواقع السورية، لكنها وهي تقوم بذلك، تضع موسكو في أجواء عملياتها. هذا التفاهم، ليس خوفاً ولا قلقاً من الموقف السوري. وإنما لأنها: لا تريد إحراج الحليف الجديد الذي حصلت عليه بعد نصف قرن من العداء ووقوف موسكو خصوصاً في مجال التسليح والتدريب مع سوريا ومصر والجزائر والعراق. إسرائيل تعمل وتتحرك على قاعدة التوفيق بين مصالحها ومصالح روسيا تماماً كما فعلت وتفعل مع الحليف الاستراتيجي التاريخي الولايات المتحدة الأميركية.
*إسرائيل لا يمكنها إحراج موسكو كثيراً في مواجهة إيران. روسيا عليها التوفيق أيضاً بين المصالح الإسرائيلية والمطامع الإيرانية في سوريا. لا يمكن لإسرائيل التحرك بمفردها في سوريا لأن في ذلك اقتراباً من الخطوط الحمر المتعارضة والمتنافسة لكل من واشنطن وموسكو وطهران.
*إسرائيل تعتمد الغموض المبرمج حول مستقبل سوريا. كل ما تؤكد عليه وجوب إخراج حزب الله وإيران. لكنها تكتفي حالياً بنجاحها في تثبيت خط فاصل نظيف من الحزب والميلشيات الشيعية الإيرانية عمقه أربعين كلم عن حدودها. لكن إسرائيل التي تقف منذ خمس سنوات مع الأسد ونظامه ضمناً، فإنها حالياً تؤكد على بقاء نظام مركزي في سوريا كما تريد وتعمل طهران، أي إن الوفاق بينهما قائم على الهدف رغم المواجهة على التفاصيل والوسائل للوصول الى ذلك بعكس موسكو التي وهي تنادي بوحدة الشعوب السورية تتّجه نحو النظام الفيدرالي وبالتالي نحو رئيس سلطاته محدودة ومحدّدة بهذا النظام ا.
في العمق واشنطن وموسكو ستأخذان في النهاية في حساباتهما بوجهة الموقف الإسرائيلي وفي هذا كلّه يكمن عمق المأساة السورية التي تنعكس حكماً على كل ما كنا نطلق عليه الوطن العربي. الذي أصبح العالم العربي وحالياً الدول العربية الموزعة على منطقة الشرق الأوسط.
هذا العالم لا يحترم سوى الأقوياء. واشنطن (التي تظهر العداء ضد إيران) وموسكو معاً، احترمتا وتقيّدتا عملياً بموقفهما من الدولة الكردية فقبلتا ودعمتا بصمتهما عملية إسقاط مشروع الدولة الكردية في كردستان العراق. وقوف تركيا وإيران معاً ضد الدولة الكردية، على قاعدة أنّ أمنهما القومي والاستراتيجي سيتعرضان للخطر، أجبر (خصوصاً واشنطن) على التعامل مع موقفهما بتفهم كامل. ضعف العرب وتمزقهم وتحاربهم فتح ويفتح الطريق، نحو المزيد من التشرذم والتمزّق، والسماح لإيران وتركيا بالتدخل العسكري في سوريا والعراق من جهة والانخراط الإيراني في حرب اليمن والعمل على صياغة يمنية لتجربة حزب الله في لبنان والحشد في العراق.
استمرار الوضع العربي على هذه الحال، يدفع للتساؤل الجدي. إذا كانت إسرائيل بعد مائة عام من وعد بلفور، أصبحت شريكة في صياغة مستقبل سوريا، وقبل ذلك وحالياً قوة فاعلة في إنتاج السلطة الفلسطينية فماذا سيكون الوضع وأين ستكون إسرائيل حاضرة في السنوات العشر المقبلة ليس أكثر؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.