اغتيال آية الله محمد باقر الحكيم زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ونجاة آية الله محمد سعيد الحكيم، وتوقف صدامات التركمان والأكراد، ومقتل سيرجيو فييرا دوميللو، وتصاعد المقاومة الغامضة التركيبة والأهداف، تؤكد كلها أن العراق أصبح حالة يسهل فيها إطلاق مختلف التوصيفات من "الأفغنة" الى "اللبننة" مروراً بـ "الفتنمة" و"الصوملة".
والواقع أن كل هذه التوصيفات لحالات تشكل كل واحدة منها محطة في التاريخ الحديث، تتقاطع في بعض مكوناتها الميدانية لكنها تتعارض في أطرافها وطبيعة أرضها وتشكيلة شعوبها وتعقيدات مشاكلها، ولذلك كله، من الأفضل الأخذ بتوصيف "العرقنة" انطلاقاً من العراق وتأكيداً لخصوصية حالته.
وبداية إن "العرقنة"، تقع في هذا الخلط العميق والواضح في وعي غالبية العراقيين، بين التحرير والاحتلال. ومهما كان قاسياً، لدى العرب وحتى باقي الشعوب تقبل هذا الخلط، فإن غالبية العراقيين واعون كليا ومتقبلون "مبدأ" أن الجيش الأميركي قد "حررهم" من صدام حسين ونظامه الاستثنائي في تسلطه وقمعه، والذي لا يمكن مقارنته حتى بالنظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي، لأن ستالين وأن أوقع مجازر لا تحصى بحق شعوبه، فإنه حقق لهذه الشعوب الحرية من النازيين وبنى "امبراطورية" قارعت الولايات المتحدة الأميركية لعقود، بينما قاد قمع صدام حسين الى احتلال العراق وإغراقه في الفقر والديون!
والعراقيون جميعاً يرون أيضاً في الجيش الأميركي جيش احتلال يجب أن يرحل بأسرع وقت، ليستعيدوا استقلالهم وسيادتهم الكاملة، لكن هذا الإجماع لا يمنع الاختلاف حول أساليب التحرير وأدواته، ولذلك يتوزعون بين دعاة للمقاومة المسلحة والمقاومة المدنية! ولهذا كله فإن مواصفات "الفتنمة" أو "الأفغنة" او"اللبننة" أو "الصوملة"، لا تصح لأن هذا الخلط بين التحرير والاحتلال لم يقع هناك، إلا إذا أقحمت تظاهرات نثر الأرز على الإسرائيليين في بعض الجنوب اللبناني في كل ذلك!
"القاعدة"، تريح الإدارة الأميركية
"والعرقنة"، تتمظهر في هذه التشابكات والاشتباكات الداخلية والاقليمية والدولية، التي تبدو أمامها "اللبننة" جزءاً من حالتها وليس الحالة كلها. ومن ذلك أن الإدارة الأميركية برئاسة الرئيس جورج بوش، تدرك أكثر من غيرها، أنها واقعة بين مستحيلين هما: استحالة انسحابها على الطريقة الصومالية أو الفيتنامية أو اللبنانية، لأن خروجها الآن بأي طريقة لا يعني هزيمة لهذه الإدارة فقط وإنما هزيمة لكل المشروع الأميركي في الإدارة الأحادية للعالم وصولاً الى انكسار "الامبراطورية الأميركية"، واستحالة الانتصار في المواجهة اليومية من جهة وإعادة بناء العراق واحة للديموقراطية تشع على المنطقة وتكون مثالا لها كما كان يحلم عتات المحافظين الجدد المتشددين في واشنطن. ولذلك فإن هذه الإدارة تبحث عن طريقة تخفف فيها من خسائرها البشرية المحدودة حتى الآن، وخسائرها المالية الأكثر أهمية وخطورة والمرشحة للتزايد وليس للتناقص، لتكون كلفة الاحتلال مقبولة لدى الأميركيين، ومن جهة أخرى، العمل على "تشريع" استمرار وجود جيشها في العراق. وهذا "التشريع" يتم حالياً من خلال التركيز على أن المواجهات المسلحة تتم ضد إرهابيي "القاعدة"، وهذا الخلط بين إرهاب "القاعدة" وعمليات المقاومة المسلحة، تؤدي عملياً الى دفع الأميركيين لتقبل عدم عودة الجنود الأميركيين الى ديارهم وعائلاتهم. فالحرب بهذا المعنى لم تعد ضد أطراف عراقية من بقايا نظام صدام حسين ولا ضد مجموعات إسلامية أصولية عراقية وإنما ضد الإرهاب الذي ضرب الأميركيين في منازلهم وعائلاتهم. وتصبح الحرب في العراق في هذا الحالة حرباً مشروعة أميركياً ودولياً، إذ يجب ألا ننسى أن العالم كله شريك في هذه الحرب، وكل طرف منه ينفذ شروط شراكته وواجباته بدون تردد وبكفاية عالية جداً.
الى جانب ذلك، فإن استمرار وجود القوات الأميركية ولو تحت علم الاحتلال في العراق، يكاد يصبح يوماً بعد يوم، وجوداً مطلوباً، لأنه يشكل صمام الأمان لمنع الحروب الأهلية التي تنتشر مكوناتها وأسبابها في ثلاثة أطراف العراق. فالعراق مرشح لحرب شيعية ـ شيعية في الجنوب، وشيعية ـ سنية في الوسط، وكردية ـ عربية وكردية ـ تركمانية في الشمال وحتى كردية ـ كردية. فالهشيم منتشر في كل مكان، لا ينقصه سوى شرارة النار والنفخ فيها! ولذلك فإن المسؤولية الأميركية كبيرة هنا، لأن عليها يقع عبء استمرار ضمان عدم اشتعال هذه الحروب، خصوصاً أن امتداداتها الاقليمية مفتوحة أمام نيرانها إذا استعرت. الى جانب ذلك فإن الإدارة الأميركية التي دخلت العراق "محررة" وصاحبة رؤية وليس مشروعاً لدمقرطته، ارتكبت خطيئة قاتلة في تفكيك الدولة العراقية وحلّها بدلاً من استئصال النظام العراقي، والمحافظة على الدولة العراقية.
الشيعة عقدة الحل والربط
ولا شك، أن الحالة الشيعية في عراق ما بعد صدام حسين، باتت هي عقدة الحل والربط في مستقبل العراق. وبداية هذا التحول، جاء في الاعتراف الأميركي الواقعي، بأن الشيعة هم أغلبية العراقيين، وأنه بالتالي لهم الحق في أكثر من المناصفة في السلطة ولو بفارق بسيط. لكن هذا الاعتراف التاريخي بالنسبة للشيعة العراقيين، جاء وسط خلافات شيعية ـ شيعية، تنذر بصدامات مسلحة واسعة. وتبدأ هذه الخلافات، في من يمسك بالقرار في النجف وصولاً الى من يمثل الشيعة في النظام المقبل. ولا يقف الخلاف الأول عند حدود الأشخاص وإنما يمتد الى العائلات والعشائر (الصدر والحكيم) ليصل الى ما أصبح يطلق عليه الحوزة الناطقة والحوزة الصامتة أوالتقليدية. أما الخلاف الآخر ويتمحور في بغداد فإنه يبدأ بالأشخاص (أحمد الجلبي وأياد العلاوي وعبد العزيز الحكيم وابراهيم الجعفري) ليصل الى الخط والنهج أي ليبرالي متشدد أو إسلامي معتدل أو إسلامي له امتدادات تبدأ بإقامة الجمهورية الإسلامية لتصل الى مسألة ولاية الفقيه قبولاً أو رفضاً! كذلك، فإن الشيعة يعيشون قلقاً أفرزه سقوط صدام حسين، وهو استبعادهم مرة أخرى من النظام وغرقهم في التهميش والإهمال والفقر بدلاً من تقاسم السلطة في إطار الاعتراف بأغلبيتهم العددية.
أما السنّة، فإن حالتهم في العراق يُرثى لها، فقد تم الخلط بينهم وبين النظام السابق، علماً أن هذا الخلط خاطئ في أساسه. كما جرى التأكيد مراراً وتكراراً وعبر عقود سابقة أن السنّة استبعدوا الشيعة من السلطة فغرقوا في الاهمال والفقر، علماً أن القضية أكثر تعقيداً وتعود الى الطريقة التي عمل بها البريطانيون في تشكيل النظام العراقي الحديث الى جانب أن صدام حسين السنّي لم يكن في قمعه سنياً يوفر على السنّة سلطويته، فهو تعامل مع العراقيين في إطار معادلة واضحة: معي أو ضدي. فمن كان معه يجب أن يستمر في مساره مثل الأعمى يسير ولا يرى ما حوله، ومن كان ضده ولو من باب الشك يتم استئصاله فرداً أو جماعة. وأمام "انتزاع" السلطة من أيدي السنّة عامة وليس الصداميين ولا البعثيين، الى جانب حماقات وجهل الأميركيين في التعامل مع المجتمع السنّي المحافظ في ما أصبح يطلق عليه "مثلث الموت"، تنخرط قوى سنّية متعارضة الولاءات والأهداف والنهج في المواجهة المسلحة ضد الأميركيين. وهذه المواجهة التي تحوّلت ظاهرة يومية ومتواصلة ومتطورة في أهدافها ووسائلها تعمل لاستعادة "شرعية" حقها في السلطة عبر ضريبة الدم وشرف المقاومة. لكن هذا الموقف في ظل "انحياز" كردي الى جانب الأميركيين، و"تحييد" شيعي إما خوفاً من استثمار صدام حسين لمشاركتهم مع كل ما يمثل ذلك من استعادة لشرعيته، أو رفضاً للمعارضة المسلحة جملة وتفصيلاً، يعرّض السنّة العراقيين للحصار على طريق الإحباط!
والأكراد في العراق، الذين بمختلف أحزابهم وشرائحهم وقفوا مع الأميركيين الى جانب تحرير العراق من النظام الصدامي، واعتقدوا أن بينهم وبين كردستان شبه دولة مستقلة في إطار الفيدرالية، يجدون أنفسهم الآن بين "سندان" التحالف مع الأميركيين و"مطرقة" الأتراك. ولذلك فإن تطورات الموقف التركي هي التي ستصيغ مستقبل الأكراد ومحوره مثل السير على حافة السكين! فإذا سكت الأكراد وقبلوا على مضض الوجود التركي في كردستان العراقية، حفاظاً منهم على حليفهم الأميركي ومطلبه بالتهدئة، فإن معنى ذلك خسارتهم الكاملة لسنوات طويلة من الكفاح ضد نظام صدام حسين وسقوطهم في شباك الأتراك. وإذا واجهوا الأتراك بالسلاح، فإن المسار الطبيعي لذلك هو الدخول في مجهول حرب دموية طويلة لا يمكن خلالها المراهنة على واشنطن التي ستقيس موقعها منهم بمقياس ريشتر للزلازل وعلى أساس التشكل الطبيعي لمصالحها مع تركيا. وبهذا فإن الأكراد الذين كانوا يعتبرون أنفسهم الرابح الأكبر من الحرب، خصوصاً أنهم أصبحوا شريكاً كامل الحقوق وربما أكثر في تركيبة عراق المستقبل، أصبحوا لا يعرفون متى يقعون تحت النصل الحاد لمفاجآت الموقف التركي ـ الأميركي!
التشابكات الخارجية!
إذا كانت هذه تشابكات واشتباكات الداخل العراقي، فماذا عن الخارج؟
والبداية من الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تربطها بالعراق حدود مشتركة، وعلاقات تاريخية معقّدة، وتداخلات مذهبية واجتماعية عميقة. والواقع، لا يمكن فصل مستقبل العراق عن مستقبل إيران سلباً وإيجاباً. وإذا كانت إيران سعيدة بسقوط نظام صدام حسين لأسباب معروفة، فإنها قلقة وحذرة من الوجود الأميركي على حدودها والذي أكمل "الكماشة" عليها بعد أفغانستان. ولذلك كله فإن الحركة الإيرانية في العراق تسير وكأنها في حقل من الألغام، فهي تريد ترسيخ علاقاتها ووجودها في بحر الشيعة العراقيين، من جهة وعدم السقوط في فخ الانخراط في المشروع الأميركي وصولاً الى القبول الضمني بالاحتلال الأميركي، وهي تريد إمساك الشيعة بالسلطة في بغداد، ولكنها تتخوّف من انعكاسات الخطاب السياسي للقوى الشيعية في رفض استنساخ الجمهورية الإسلامية نظاماً وفكراً. وهي مهتمة باستعادة علماء النجف وكربلاء لحضورهم وقوتهم وتأثيرهم، وتخاف من العملية التبادلية مع قمّ والمراجع وعلى أساس قاعدة التعددية للإغناء، بدلاً من أحادية الولي الفقيه وسلطته!
ومن هذه التشابكات، يمكن فهم اعتراف طهران بالمجلس الانتقالي وتعيين ممثل لها، في وقت ما زالت فيه كامل الدول العربية بين رافض ومتردد وقابل على صمت. ويبدو واضحاً أن واشنطن تفتح الباب بدقة لتحقيق مزيد من الانغماس الإيراني المُراقب في العراق وبحيث يؤدي ذلك حكماً الى مزيد من تكبيل وتقييد لها. فكلما ازداد انخراطها ونمت آمالها، كلما ارتفع الثمن الذي يجب أن تدفعه لواشنطن. ولكن هذه العلاقات المعقدة قد تقود في لحظة تصعيد مفاجئة الى وقوع اشتباكات واسعة بين واشنطن وطهران تتجاوز الجنوب العراقي لتتسع وتتحول الى مواجهة شاملة تستند الى أكثر من عقدين من الأحقاد والخلافات والرفض المتبادل. والملف النووي الذي لا تختلف واشنطن مع أوروبا حول ضرورة إغلاقه على أساس التزام ايراني بالمطالب الدولية، القنبلة الموقوتة التي يمكن تفجيرها في الوقت المناسب.
بدورها فإن تركيا تلعب لعبة خطرة قائمة على التردد والتمزق بين إرادة العسكر الأتراك وقواعد التحالف مع واشنطن والطموحات النفطية في شمال العراق والخوف من استقلالية الأكراد. ولذلك فإن تركيا التي رفضت الانخراط في الحرب الى جانب القوات الأميركية، تبدو مستعدة الآن للدخول الى العراق تحت بند حماية التركمان من الأكراد، وهي أيضاً بكل هذه التشابكات تتغافل عن أن انحيازها للتركمان العراقيين وهم أقلية الأقليات ضد الأكراد بكل ما يمثلون حالياً وما يشكلونه من حلقة القوة في القوى العراقية، قد يغرقهم في مواجهات دامية معهم الآن أو لاحقاً، وأن عدوى هذه المواجهات ستنقل تركيا نفسها الى جحيم الاشتباكات الداخلية.
وأمام كل ذلك تبدو أنقرة في مأزق كبير، فهي إذا لم تدخل شمال العراق، فإنها تتخلى عن التركمان الذين نفخت في حجمهم وحضورهم مما يسبب لها أزمة داخلية، وهي إذا تركت مسار الحركة السياسية مفتوحاً أمام أكراد العراق، فإن الفيدرالية القادمة "ستحرقها" عراقياً وتركياً، إذ لا يمكنها أن تمنع "فيروس" الحالة الكردية العراقية من الانتقال عبر حدودها الى من تسميهم "الجبليين" أي الأكراد حتى ولو بحدود.
وأخيراً فإن أنقرة الحليفة الاستراتيجية لواشنطن لا يمكنها الوقوف مكتوفة أمام إلحاحها بنجدتها، وفي الوقت نفسه تخاف من التدهور من قمم جبال كردستان العراقية الى وهاد ديار بكر التركية.
أما الدول العربية، فقد يصح فيها القول بأن "حالتها حالة". فهي رفضت الحرب وترفض ما يجري، لكنها لا تملك الجرأة ولا القوة لترجمة هذا الرفض. وهي تخشى تحول العراق الى دولة ديموقراطية، وتخاف من غرق العراق في حروب أهلية. وهي تؤيد "المقاومة" ولا تجرؤ على دعمها أو حضانتها لأسباب أميركية وعراقية، وهي في معظمها ترفض صعود الشيعة في العراق الى السلطة ولكنها لا تستطيع الجهر بذلك لحسابات مستقبلية وضمناً لحسابات داخلية. مشكلة الدول العربية أنها تدرك جيداً أن العراق هو قلب المنطقة جغرافياً وأنه لا يمكن إغلاق حدودها ونظرها وعقلها وكبت عواطفها، لأن لا حدود أمام التغييرات الانقلابية مهما كانت طبيعتها، فما يصيب القلب يلحق حكماً بكامل الأطراف الأخرى. وما لم تجد بعضها على الأقل نهجاً واقعياً للتعامل مع هذا العراق البركاني، فإن العجز يقتل مثل "الموت الأبيض" الجليدي!.
بدورها فإن أوروبا وخصوصاً فرنسا، لا يمكنها الانخراط في النهج الأميركي في العراق، لأنها رفضت الحرب باسم افتقارها للشرعية الدولية، وفي الوقت نفسه لا تستطيع قبول هزيمة الولايات المتحدة، لأنها تبقى الحليف الأكيد لها، وهي تدرك أن انتصار واشنطن الحالي في العراق، سيؤكد أحاديتها واحتكارها لنفط العراق بكل ما يعني ذلك من تأثيرات عميقة في اقتصاداتها. ولذلك تصر على استعادة الأمم المتحدة لمكانتها ودورها، إذ تحت غطاء هذه الشرعية يمكن لأوروبا وتحديداً فرنسا العودة الى العراق في إطار سياسة إعادة الإعمار والبناء.
تبقى الولايات المتحدة الأميركية، العمود الفقري لكل هذه التشابكات والاشتباكات، لأنها في موقع القرار الأول والأخير، وهي أثبتت من المسار العراقي أنها تملك استراتيجية استثنائية للحرب مع قدرات عسكرية لم يشهد التاريخ البشري مثيلاً لها وتفتقر استراتيجية سلام وإعادة بناء لما بعد الحرب. وهي بذلك "ديناصور" يسحق بدون روافع لإزالة الأنقاض والبناء. ولعل تفكيكها للدولة العراقية بدلاً من الاكتفاء بضرب صدام حسين ونظامه، شكل حجر الأساس في أزمتها الحالية، وقد تعمقت هذه الأزمة مع انجلاء معالم عجزها في إدارة مرحلة ما بعد الحرب. ويبدو واضحاً أن هذه الإدارة الأميركية ذات الخطاب الايديولوجي الاستثنائي، والتي تريد أن تكون بداية لمرحلة تسلم المحافظين المتشددين لمفاتيح السلطة والقرار في واشنطن، وليس تجسيداً لنجاحها فقط، غير مستعدة لمواجهة هزيمة في العراق الذي أرادته تجسيداً لمشروعها في تحويله ديموقراطياً على طريق تحويل المنطقة في المسار عينه. ولذلك لا تستطيع الانسحاب لا على الطريقة الفيتنامية ولا اللبنانية ولا الصومالية. وهي، أي هذه الإدارة، تستجلب الى درجة الاستجداء المساهمات الدولية وهي مستعدة حالياً لمنح الأمم المتحدة دوراً تحت قيادتها وليس دور لها مهما عظم تحت قيادتها. وفي ظل هذه الاستحالة وارتفاع تكاليف الاحتلال، وإمكانية تحول "المقاومة" المحدودة الى مقاومة واسعة، كلما طال الاحتلال وأيقنت مختلف القوى والشرائح من سنية مدينية وشيعية وحتى كردية أن النظام السابق لن يعود، وأن حقوقها محفوظة في عراق محرر كامل السيادة وفي إطار نظام مرتكز على ثوابت النسيج العراقي بمختلف ألوانه واطيافه!
ولا شك أن الإدارة الأميركية وبخاصة "الصقور" منها بدأوا يدركون هذا المأزق، ولذلك يعملون لزيادة التشابكات ورفع درجة الاشتباكات ولا تستبعد وسيلة إلا وتستخدمها أو تستثمرها، وهي إذا كانت تفتح الباب لطهران نحو المزيد من الغرق في "رمال" العراق المتحركة، وتستجلب العون التركي بدون الالتفات الى انعكاسات دخولها شمال العراق على الداخل التركي، فإنها أيضاً تهدد جيران العراق باكتشافها للأغلبية الشيعية، وترسل رسائل عديدة لعل أخطرها في هذا المجال الإيحاء بالتزامها بما قاله استراتيجيو "الصقور" الأميركيين بأن النفط الشرق الأوسطي موجود في معظمه في "كوريدور" أو "ممر" شيعي، ولذلك يجب فهم تسمية شيعي لوزارة النفط العراقية من هذا التوجه كله!
لا يكفي أن يستيقظ العرب، ويعملوا لوأد الفتنة والحؤول دون "الحروب" في العراق وإنما يجب المساهمة في التعجيل في إزالة الاحتلال الأميركي من خلال إقامة "جبهة صمود وتصدي" مع أوروبا وروسيا والصين على طريق إعادة العراق الى مظلة الأمم المتحدة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.