بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على سقوط نظام صدام حسين، وبعد الانفصال التام بين التحرير والاحتلال الذي كاد يخلق حالة من الانفصام السياسي الكامل لدى غالبية العراقيين، يبدو غرق شيعة العراق في أمورهم الخاصة وكأن مستقبل العراق لا يعنيهم إلا بقدر ما يأخذون منه حقاً مشروعاً حُجب عنهم ثمانين عقداً ونيف، يزيد دافعاً للتساؤل بإلحاح حول انخراطهم في عملية التحرير. ذلك أن تبدل الدور الشيعي من شأنه أن يقود الى متغيرات تنسف كل ما يقوم به المحافظون الجدد في واشنطن والمتطرفون في إسرائيل، لبناء عراق حسب خرائطهم ومعييرهم، تمهيداً لبناء المنطقة كلها استناداً الى ذلك.
والواضح من تطورات المواجهات، داخل "المثلث السني"، والنمو النوعي في بعض العمليات، أن المقاومة تربك الجيش الأميركي من جهة وتحرج الإدارة الأميركية من جهة أخرى لكن لا يمكن إنجاز الهدف الأساسي لها وهو تحرير العراق، عبر إجبار الإدارة الأميركية، على اتخاذ القرار المستحيل حتى الآن وهو الانسحاب من العراق. ذلك أن قرار الانسحاب الأميركي، لا يمكن أن يتم إلا في حالة واحدة وهي أن تكون كلفة الاحتلال وإدارة العراق أكبر بكثير من فشل المشروع الذي صاغة المحافظون الجدد بقيادة "الصقور" منهم. وما يجري حتى الآن أن كلفة هذا الاحتلال ما زالت مضبوطة تحت سقف مع بعض الاستثناءات القليلة إضافة الى أن الانسحاب على الطريقة الصومالية أو اللبنانية مرفوض دولياً وبخاصة أوروبياً إذ أعرب وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيليان عن اعتقاده القوي بأن أي انسحاب أميركي حالي وفوري يشكل "كارثة" حقيقية يجب تفاديها والعمل على تجنبها.
ومما يعزز هذا التوجه "بالصمود" الأميركي داخل العراق، أن إدارة الرئيس جورج بوش ومعها كل المحافظين الجدد ومشروعهم الايديولوجي، ستستقط فوراً وبالضربة القاضية فور الانسحاب من العراق تحت وطأة العمليات العسكرية.
والواقع أن كل الظروف الحالية تؤشر الى أن الشروط الضرورية والواجبة لانخراط شيعة العراق في المقاومة لم تتوافر بعد، ذلك أن ما يوصف "بالمقاومة" ما زال مجهول القيادة والتوجه السياسي ومحصوراً بمحاربة القوات الأميركية.
ومن المهم التأكيد هنا، أنه يوماً بعد يوم يزداد التداخل الميداني بين هذه المقاومة المشروعة والإرهاب المرفوض وغير المشروع، ذلك أن هدف الأولى إخراج الأميركيين من العراق، في حين أن المجموعات غير العراقية سواء كانت من "القاعدة" أو "أنصار الإسلام" أو تحت أي عناوين أخرى، هدفها المعلن والنهائي تصفية الحسابات مع الولايات المتحدة الأميركية، بصرف النظر عن مستقبل العراق، فضلاً عن أن هذه "الحرب الأخرى" مفتوحة على المكان والزمان. ولكي يتم هذا الفصل بين المقاومة والإرهاب يجب أن يكون لهذه المقاومة مشروعها الوطني الكامل والواضح.
ولا ينحصر هذا المطلب في إنجاز الفصل بين المقاومة والإرهاب، وإنما يمتد ليدخل في أعماق موقف شيعة العراق. فهم يرفضون الاحتلال الأميركي منذ اللحظة الأولى، ولكنهم يرون أساساً كما أكدوا مراراً أنهم بعد ثلاثين عاماً من قهر نظام صدام حسين، وثمانين عاماً من التجاهل والاهمال والحصار والإبعاد عن الدولة والتنمية، وهم الذين قاتلوا وضحوا في ثورة 1917 ـ 1920 ضد الانكليز، صاروا حسب توصيف أحد كبار وجوه النجف مثل رجل عارٍ فوق تلة عالية. إذ يجب أولاً أن يغطي عريه الذي فُرض عليه، وأن يستعيد عادة التنفس في الهواء الطلق، ومن ثم يروح بانتقال نظره من ظلام الحصار والقمع الى الإطلالة الواسعة على الأمن، يُعمل التفكير في حاضره ومستقبله.
وعندما يصل تفكير شيعة العراق الى المستقبل، يكون مشروع العراق الجديد وموقفهم فيه هو البداية والنهاية لكل مواقفهم.
فشيعة العراق لا يقبلون مطلقاً ليس قيادة صدام حسين للمقاومة فحسب، بل مجرد إطلالته. ويعزز هذا الموقف المشدود الى تجارب الماضي مواقف الحاضر، ذلك أن صدام حسين يبدو كأنه لم يخرج من معادلة اختصار العراق في شخصه، إذ عوض أن يطرح مشروعاً وطنياً للعراق الجديد اكتفى بتعيين قيادة تكريتية للمقاومة. واستنهاض "نشامى العراق" ضد الاحتلال الأميركي. أما ماذا بعد هذا الاستنهاض فإنه يبقى مجهولاً، فيما يراه الشيعة في العراق أشد مأسوية وسوداوية من العقود الثلاثة الماضية، بعد امتلاء قلب صدام حسين وعقله بالحقد على كل ما جرى.
إن قلق الشيعة في العراق من المستقبل أمر مشروع، ويعزز هذا القلق أن "لبننة" العراق عن طريق ضرب المذاهب بعضهما ببعض، فضلاً عن ضرب القوى داخل كل مذهب، وبخاصة لدى الشيعة، تبقى مشروعاً قائماً لا يقع فقط في قلب العقل المؤمراتي لكون الساحة الشيعية تواجه حالياً استقطاباً حاداً بين السيد الصدر زعيم "الحوزة الناطقة" والذي يلتف حوله وتحت عباءته قوى مختلفة ومتعارضة أحياناً يقبع في حناياها متضررون من انضمام حزب الدعوة الى "النظام" وبقايا من النظام القديم التي تريد حماية نفسها واللعب على النار الكامنة إما للثأر أو تحضيراً لمشروع استعادة السلطة إذا كان موجوداً. هذا دون الحديث عن المراجع وفي مقدمها آية الله السيستاني، وأخيراً الليبراليين أمثال أحمد الجلبي وأياد وعلاوي وغيرهما. ولذلك أمام القيادات الشيعية قبل الدخول في أي مشروع لتحرير العراق العمل لتحصين نفسها داخلياً، لئلا ينجح أي مشروع لتفجير الاقتتال الداخلي في صفوفها، أو إحداث زلزال الفتنة المدمر مع المذاهب الأخرى وبخاصة السنة والقوميات.
شيعة العراق يجمعون بمختلف أطيافهم وقواهم على رفض الاحتلال، وقد عمّدوا دائماً وطنيتهم بدمائهم رغم عدم اقتناعهم بشرعية الحرب مع ايران، ولأنهم أخيراً حصلوا على اعتراف عراقي ودولي بحقهم في عراق المستقبل بعيداً عن الأغلبية العددية. فهم يدركون أيضاً أن الأغلبية العددية تؤسس لحقوق كانت مهضومة، لكن وحدها ضريبة الدماء تشرع هذا الحق وتضمنه خصوصاً في ظل حالة الاحتلال القائمة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.