8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

الفلوجة: ستالينغراد أم "الشهيدة"؟

هل تكون الفلوجة، "شهيدة" المقاومة غير المكتملة، أم تكون "ستالينغراد" العراق على طريق المقاومة الشاملة والتحرير؟
صمود الفلوجة أمام الآلة العسكرية الأميركية، لا يعفي من طرح جملة أسئلة حول مستقبل هذا الصمود وتوظيفه واستثماره في مشروع مقاومة شاملة، تلح كل التطوّرات والأوضاع على صوغه وتنفيذه. ومن طبيعة هذه الأسئلة المطروحة، قيامها على قاعدة فرضتها "اللبننة" الجزئية للوضع العراقي.
ولذلك فإن "مذهبة" الحديث عن العراق شمالاً وجنوباً، ليس سوى لتسهيل التعامل مع خصائص هذا الوضع.
وبداية فإن الفلوجة كانت السبّاقة في إطلاق الرصاصات الأولى على المحتل الأميركي، ممثلة في ذلك قمّة ما أصبح يطلق عليه "المثلث السني الصغير" أو مثلث الموت وهو يضم تكريت والرمادي وسامراء وصولاً الى بغداد. اما المثلث الكبير فيمتد ليضم "القائم" على الحدود مع سوريا.
وقد صعّدت الفلوجة من مواجهتها مع الجيش الأميركي مع كل تصعيد عسكري أميركي ضدّها. واختصار المجموعات المقاتلة باسم المدينة الفلوجة، يعود الى تعدد ألوان وتوجهات مروحة المقاومة واختلاطها بمجموعات عربية وافدة مخلصة لقناعاتها بالمقاومة والتحرير، وأخرى منطلقة من قلب "القاعدة" أو متفرعاتها هدفها محاربة الأميركيين بصرف النظر عن هدف العراقيين بالتحرير.
ذلك أن إرهاب "القاعدة" هو جزء من حرب شاملة ومكشوفة ضدّ الولايات المتحدة الأميركية بعيداً عن طبيعة المكان ومنطلقات شعوبه السياسية وأهدافها النهائية.
هذا التصعيد المتوازي في المواجهات المسلّحة بين الجيش الأميركي المحتل والفلوجة، وصل خلال شهر نيسان الى نقطة حاسمة: فالأميركيون غير قادرين على التسليم ولو بانتصار محدود للفلوجة لئلا تتحول الى نقطة الزيت الملتهبة التي تنتشر على مساحة العراق، من جهة، ولا هم يقبلون بهذه النتيجة ايضاً، لئلا تسجل "القاعدة" ومتفرعاتها نقطة لصالحها، تشكّل ضربة للأمن القومي الأميركي بجميع المقاييس الأميركية والدولية معاً من جهة اخرى. وفي الوقت نفسه، فإن القوّات الأميركية وان كانت قادرة عسكرياً على اجتياح الفلوجة باساليب "الفتنمة" العسكرية، لكنها سياسياً لا يمكنها تنفيذ ذلك لاختلاف أسباب الحرب وأهدافها بين فيتنام والعراق. ولذلك يركّز الأميركيون على استراتيجية "العمليات الجراحية" التي تؤدي الى البتر المنظّم فيها، الى ضرب المقاومة دون الكلام عن جرائم ضدّ الانسانية.
بدورها فإن المقاومة بجميع تشكيلاتها وما انضم اليها من "القاعدة" أو متفرعاتها، لا يمكنها الاستسلام تحت ضغط الشروط الأميركية التعجيزية بالنسبة اليهم. وفي الوقت نفسه لا يمكنها تحقيق انتصار واضح يؤثر على القرار الأميركي إما بفك الحصار والاشتباك، أو تقديم تنازلات جوهرية وأساسية.
صمود الفلوجة في مواجهات نيسان المشتعلة أثبت جملة وقائع بعضها مؤلم. ولعل أبرز هذه الوقائع، أن المقاومة في المثلث السني التي تكاد تدخل عامها الأول، ما زالت مجموعات مستقلّة لا يجمعها التنسيق ولو على أدنى المستويات فكيف بالقيادة الموحّدة التي توزع المهمات وتطوّر أساليب المواجهة وتعمل على تحسين ظروف القتال وتنويعه تبعاً لتكتيكات الآلة العسكرية الأميركية فالمعارك التي تعالى لهبها في الفلوجة، لم تمتد الى باقي زوايا المثلث ولا حتى اضلعه، لتخفيف الحملة العسكرية الأميركية عبر تشتيت جهودها وتفتيت تركيزها العسكري، ووضع الجنود الأميركيين في حالة خوف وقلق يمنعهم من الحركة الحرة والسريعة. وكل الاشتباكات التي حصلت حتى وان كان بعضها منتجاً من خلال الخسائر العسكرية بقيت متباعدة في توقيتها ومحدودة الانتشار الجغرافي. علماً أن أولى مبادئ المقاومة، هو تواصل الضربات الموجعة ولو كانت صغيرة، في مواقع بعضها مفاجئ، وفي أحوال أكثرها بعيدة عن الحسابات!.
ولولا تصاعد العمليات في بغداد، بشكل واضح، لبقيت مواجهات الفلوجة شبه يتيمة!
وشبه أحادية الفلوجة في المقاومة، في "مثلث الموت"، يقود حتما الى الجنوب الشيعي الذي يغلي فوق "نار" السيد مقتدى الصدر "وجيش المهدي". ولا شك أن خصوصية "حصن" السيد الصدر، متمثلة بالنجف وكربلاء، هي التي تدفع حالياً بالأميركيين الى تقييد جموحهم وعدم الاندفاع نحو هذا الداخل الذي لا شك سيفتح "أبواب الجحيم" عليهم اذا ما خرقوه وأحرقوه وهذه المحصلة ليست لأن "جيش المهدي"، هو الجيش المنتظر للتحرير، وانما لأن خصوصية الحضرات المقدسة ووجود الحوزات والمراجع هي السبب. لكن القوات الأميركية تعمدت بعد ساعات من تسلمها مواقع الاسبان المنسحبين، توجيه "رسالة" ميدانية الى جيش المهدي، فقتلت عشرات منهم تحت غطاء استفزازها!.
والمهم في ظاهرة السيد مقتدى الصدر، انه ما زال صوتاً يغرد خارج "سربه الشيعي". فاذا كان الشيعة العراقيون مجمعين على التخلص من الاحتلال وخروج الجيش الأميركي الا أنهم ما زالوا على مختلف تياراتهم واختلافاتهم، تحت سقف التحرير بقوة السلاح. حتى السيد الصدر لم يصل في خطابه اليومي الى حالة فتح "أبواب الجحيم" سوى في مواجهة اعتداء أميركي على النجف وكربلاء طلباً لرأسه وتنظيمه "جيش المهدي". وهذا الموقف الشيعي العام المتحفظ عن خوض غمار المقاومة المسلحة يستند الى تجربة تاريخية هي ثورة 1920، التي شكل فيها الشيعة "لحم المدافع"، ولم يحصلوا على موقع يستحقونه في الدولة العراقية، سواء بسبب تضحياتهم أو لأنهم يشكلون غالبية الشعب العراقي، والى مرحلة صدام حسين ونظامه طوال ثلاثة عقود، وتبقى المدافن الجماعية اطاراً مخيفاً وحزيناً ومؤرقاً لهم لعقود طويلة! ولذلك، فان قيادات الشيعة من علمانية معتدلة أو قومية أو اسلامية أو مراجع دينية، تتريث في مواقفها، حتى لا يتكرر التاريخ وتكون للمرة الثالثة ضحية اندفاع غير محسوب! وهنا يبدو الموقف الأميركي هو "السد" الذي ان أحسن التعامل مع هذا الواقع خزن "مياه" هذه المواقف الشيعية واستثمرها في ابقاء المقاومة في المثلث السني، مقاومة مبتورة ومعرضة دائماً للخلط بينها وبين ارهاب "القاعدة"، أو في تحويل أصغر ثغرة لاصغر سبب الى انهيارات واسعة، لن يكون العراق وحده مساحة مفتوحة أمام نتائجها وانما لتنتشر على خريطة المنطقة وبدايتها الجمهورية الاسلامية في ايران.
الجغرافيا هي التي تصنع سياسة الدول. والجغرافيا توأمت العراق وايران، وجاءت العلاقات الانسانية والاجتماعية ومن ثم المذهبية المنسوجة بخيوط الحوزات بكل علمائها وطلابها، لتجعل من هذا التوأم واقعاً لا يمكن تجاوزه ولا تجاهله. ولأن العراق مشغول الآن بالاحتلال، وبفراغ سياسي أكثر ما يعبر عنه غياب حزب او قيادة تحوز أو حازت حتى بعد عام من سقوط صدام حسين ونظامه على الشرعية الشعبية، فان ايران، التي وبعد مرور ربع قرن على الثورة الاسلامية، أصبحت مهتمة بمصالحها القومية أكثر بكثير من تصدير الثورة!.
هذا الواقع الاستراتيجي الجديد للسياسة الايرانية، هو الذي يؤطر كل حركتها وتحركاتها في العراق. فهي حكماً تقف مع الشيعة وتدعمهم وتغذيهم، ليس فقط كشريحة بشرية واجتماعية، وانما وهو المهم تصوغ علاقات متكاملة مع مختلف الاطياف السياسية الشيعية العراقية، فهي وان كانت حكماً مع المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، كما هي مع حزب الله في لبنان، الا انها مع باقي الأحزاب والقوى وان كان على درجات متفاوتة. ذلك ان لإيران علاقات مع أحمد الجلبي واياد علاوي والسيد محمد بحر العلوم وحزب الدعوة ومنظمة العمل الاسلامي والمراجع الدينية وبالتالي السيد مقتدى الصدر الذي زارها مرة واحدة منذ سقوط صدام حسين.
وتمتد هذه السياسة الايرانية التي اختيرت نجاحاتها في لبنان الى باقي القوى السياسية والاجتماعية العراقية. وهي تعمل على الامساك بمختلف الخيوط، لتتمكن من تحريكها والعزف على أوتارها حسب برامجها "ونوطتها" السياسية.
وهي في ذلك، تعمل على تحويل "المقص" الأميركي الذي يحاصرها على الحدود الشرقية والغربية في افغانستان والعراق الى "جسر" لها تعبر عليه لممارسة ضغوطها على "النسر الأميركي" الذي يمنعه وجوده العسكري على الأرض من التحليق عالياً للانقضاض على فريسته. وضمن هذه الاستراتجية الايرانية، فإن تكتيكها يقوم على اشعار الأميركيين بحضورها وأهمية دورها، ليصبح مطلوباً في كل مرة يستدعي الوضع المتطور ذلك، وتعمل طهران على عدم الوصول في عملية الاشعار هذه الى مرحلة استفزاز "النسر الأميركي"، حتى لا يتحول "الجسر" الى الحوار والتفاهم "جسرا" للمواجهة الواسعة!
ومن حيثيات هذه الاستراتيجية، عدم تشجيع انخراط قوى الشيعة وأحزابها في المواجهة الشاملة مع القوات الأميركية، لأن ذلك يجبرها على الانخراط الموازي في هذه المواجهة سواء في تقديم العون المادي او السلاح، خصوصاً ان الجنوب يفتقده، بعكس باقي العراق!
وإيران أيضاً لا يناسبها اشتعال أي حرب شيعية ـ شيعية مهما تعددت الدواعي والأسباب حتى لا تجبر على التحيز والتحول الى طرف يفقدها حضورها وتأثيرها لدى أي طرف آخر. وكذلك عدم اشتعال حرب أهلية شيعية ـ سنية أو عربية ـ كردية، لأسباب مختلفة أساسها استراتيجيتها للامساك بخيوط الوضع، ولأن أي نار من نوع هذه النار المدمرة تكون لها امتدادات أو اختراقات عبر الحدود المشتركة الجغرافية والبشرية والمذهبية.
أما الأميركيون، فمن الواضح ان الرئيس المرشح جورج بوش، يخوض معركة ارادة مع الفلوجة، وهو لم يعد قادرا لأسباب انتخابية على تحمل صورتها المقاومة في الاعلام ولا هو يقبل ومعه القيادة العسكرية، في اطالة أمد هذه المعركة لانه في ذلك مثل لاحس المبرد!. ولأنه لا يكفي الرئيس المرشح جورج بوش الانتصار في معركة الفلوجة وانما تنفيذ التزامه بتسليم العراقيين السيادة في 30 حزيران، فان الايام الستين المقبلة هي الامتحان الاصعب له، اذ عليه انزال حجم خسائر قواته اولا، ومن ثم تخفيض مساحة انتشاره، ولذلك فان الادارة تريد الاعتماد على استراتيجية جديدة تفتح لها ابواب البقاء مستقبلاً وتقوم هذه الاستراتيجية على الضرب بقسوة بالمطرقة العسكرية، والاعتماد على "سندان" مشكل من جيش من المرتزقة هو ربما الاكبر من نوعه في التاريخ، اذ يبلغ عديده حاليا 15 الفا ويتوقع وصوله الى 50 الفا تحت بند الحماية الامنية للمؤسسات والشركات الاجنبية الكاملة في العراق، وتطوير تجربة الغرفة 36، التي تشارك في معارك الفلوجة والمشكلة من ميليشيات لاربعة احزاب وهي: حزب الوفاق الوطني والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية والحزب الديموقراطي والحزب الوطني الكردستاني، بحيث يواجه عراقيون العراقيين ويبدو ان الاكراد وهم رأس الحربة لهذه الفرقة، وهذا التوجه تحت دعوى ان الفلوجة ومعها المثلث السني هي معقل صدام حسين وكعب اخيل الوضع العراقي الذي منه سيعود هو او من يماثله سياسة وسلوكا الى السلطة.
هذا الواقع للمقاومة، التي ما زالت اسيرة جغرافية المثلث السني، من جهة وجمود اختيارات الجنوب الشيعي من جهة أخرى، هل يعني سقوط خيار المقاومة الوطنية؟
طالما ان العراقيين اصبحوا مجمعين على ان الوجود العسكري الاميركي هو احتلال للعراق مطلوب انتهاؤه وتحرير العراق، فان الارضية المشتركة للمقاومة موجودة. ما ينقصها هو مشروع وطني جامع ومانع لكل القوى السياسية والاجتماعية في العراق يحدد شكل ومضمون العراق الجديد الذي يجب ان يكون لكل اهله او لا يكون!.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00