لماذا لم ينجح السيد مقتدى الصدر في تحويل الانتفاضة الى ثورة؟ ولماذا لم تتحول النجف الى فلوجة؟
لقاء الدقائق العشر بين آية الله العظمى علي السيستاني والسيد مقتدى الصدر، وضع نقطة نهاية على فصل المواجهة الكبرى داخل "البيت الشيعي"، على هامش المواجهة الطويلة مع الاحتلال الأميركي.
وهذا الاستقبال ـ اللقاء، لم يقع الا بعد قناعتين: الأولى من السيد الصدر، باستحالة تحويل الانتفاضة الى ثورة، عبر الامساك بمجمل "البيت" الشيعي العراقي لأن الظروف لم تنضج بعد، والثانية من المرجع السيستاني وهي أن من الأفضل عدم سد منافذ الحركة أمام السيد الصدر، لأن خسارته الكاملة تحدث خللاً لا يمكن تجاهله داخل النجف.
والواقع، ان هذه الملاقاة بين المرجعية التاريخية والمرجعية "الناطقة" المستحدثة، في وسط الطريق العراقي الذي يلفه الضباب والدخان المتصاعد من المواجهات المسلحة والسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية، وقعت لأسباب ذاتية وموضوعية، أمسكت مختلف الأطراف بتفاصيلها بحيث أصبح تجاهلها، يشكل انتحاراً سياسياً بكل مستلحقاته واستحقاقاته على مختلف أطراف هذا "البيت" الشيعي العراقي!.
وقبل الدخول في تفاصيل الأسباب الذاتية والموضوعية لهذه النتيجة، يجب المرور على تفاصيل لقاء الدقائق العشر، بين السيستاني والصدر. ففي هذا اللقاء حسب الناطق باسم الصدر وهو السيد الشيباني، "شكر" الأول الثاني على "جهوده لحل الأزمة سلمياً"، وبحثا "مستقبل جيش المهدي" وشدد السيستاني على أن الأمن في محيط الحضرة من مسؤولية السلطات الدينية وليس الشرطة العراقية، وتعهد الصدر بألا يدلي بأحاديث أو يلقي الخطب إلا بعد الاتفاق على الخطوط العريضة للخُطبة أو للحديث". وبين "الشكر" و"التعهد"، يكون السيد الصدر قد وضع نفسه أو بالأحرى "المرجعية الناطقة" تحت عباءة مرجعية التقليد للسيد السيستاني!.. والترجمة الميدانية لذلك العمل للتهدئة والانخراط في "الحل السلمي" حتى اشعارآخر!
أما العوامل الذاتية التي ساهمت في انتاج هذا التحول، فتعود الى شخص مقتدى، فالسيد، ابن "بيت الصدر"، له من الإرث ما يكفي ويزيد للتأسيس عليه وبناء مرجعية دينية وشعبية واسعة وصلبة. ولكن ذلك لا يعني مطلقاً ان باستطاعته إلغاء الآخرين والانفراد بالتمثيل والتوجيه مهما كان لخطابه السياسي من شرعية، فالنجف ام الحوزة لا يكفي فيها ذلك لكون المطلوب الشرعية الفقهية أساساً.
الى جانب "عقب أخيل" هذا، ان الصيد الصدر حرق المراحل ولم يتعامل مع واقع عراقيي النجف والجنوب العراقي. فالنجفيون ومعهم شيعة الجنوب، هم كما قال السيد السيستاني مع بدايات سقوط النظام العراقي والاحتلال الأميركي: نحن مثل رجل عار فوق تلة بعد سنوات طويلة من التقوقع في زنازين القهر والخوف. وعلينا الآن ان نستر عرينا أولاً، ثم ان نتعلم على الضوء والتنفس بحرية ثم أن نأكل دون قلق، وأن نتعلم الكلام بصوت عال ومن ثم نفكر في مستقبلنا ونحن نرى ونفكر حولنا ومع من معنا!. وأمام هذه الحالة، كان يمكن للسيد الصدر بناء قواه الذاتية من ميليشيا وحضور شعبي دون خوض المواجهة المسلحة التي وضعته في مواجهة أهله فخسر تدريجياً "المياه التي كان يجب أن يسبح فيها"!.
أما العوامل الموضوعية، فأبرزها تضامن المراجع الدينية في النجف بحيث أصبح الجميع جبهة واحدة خلف السيد السيستاني، ومما وجه ضربة قاسية الى الصدر، ان مرجع التقليد الذي التزمه وهو آية الله العظمى السيد الحائري، أعلن من قُم انه لا يحق للسيد الصدر أن يفتي بالمواجهة، فسحب بذلك منه ورقة الشرعية الدينية التي كان يمكن له التسلح بها في مواجهة مراجع النجف.
وجاءت الضربة الأخيرة عندما خرج التناقض بين السيد السيستاني والسيد علي خامنئي الى العلن. واذا كان الخامنئي هو "القائد" أو "الرهبر" في إيران الذي لا يشكك احد في قيادته، فإنه في مسألة المرجعية ما زالت الامور معلقة. وعندما يقف السيد السيستاني موقفاً محسوبا من الحكومة العراقية الجديدة برئاسة اياد علاوي في حين يعارضها ويهاجمها الخامنئي بصفته "القائد"، فإن الموقف يصبح اكثر دقة وحتى خطورة بالنسبة للسيد الصدر، لان انحيازه الى موقف من الموقفين سيؤخذ في العراق انحيازا الى العراق وهو واجب او الى ايران وهو اختيار له ثمنه.
ثم جاءت العشائر لتصب الماء في طاحونة المراجع، فهي بعد ان فكت الحصار عنها في البدايات وقفت معها في انحياز جبهوي علني، مما جعل المواجهة مع السيد الصدر اقحاما للعشائر يقطع اوصاله عن داخل الجنوب ويحاصره في جزيرة النجف!.
ولا شك في ان المعارك وتجاوزات ميليشيات مشكلة حديثا، لم تسقط التعاطف الاهلي مع الصدر فحسب بل ادت الى ضائقة اقتصادية ساهمت في تبديد تمنيات واحلام بازدهار اقتصادي ناتج من عودة الزوار الى العتبات المقدسة بعشرات الالوف. وهكذا اختلطت الضائقة الاقتصادية بمشاعر عدم جدوى هذه التضحيات طالما انها لن تؤدي الى خروج القوات الاميركية واندحارهم!
وجاءت الخسائر الهائلة لجيش المهدي (اكثر من الف قتيل في شهر واحد) مقابل خسائر لا تذكر للقوات الاميركية، لتؤكد ان حمل السلاح لا يكفي للدخول في مواجهة مسلحة مع اقوى وأحدث آلة عسكرية في العالم. وانه اذا كانت الفلوجة قد استطاعت الصمود والحاق خسائر مهمة في القوات الاميركية فانما لان مجموعات من الجيش العراقي القديم التي عاشت وحاربت في ثلاث حروب متعاقبة، قد قادت المعارك.
ان التحصن في حضرات النجف المقدسة يحمي، ويحشر الاميركيين، لكن لا يمكن لابن "بيت" الصدر تحمل التبعات التاريخية في حال الحرب لأي دمار يلحق بالنجف والعتبات. فالنجف ليست مدينة مثل الفلوجة وانما هي موقع ديني وشعبي وله علاقة بالتاريخ والمستقبل.
وأمام هذا كله فإن دخول السيد مقتدى الصدر تحت عباءة السيد علي السيستاني مرجع التقليد الاول، لا يعني انتهاءه بل يعني عودته الى التعامل مع المراحل بواقعية بانتظار ان تدق اجراس المرحلة التي تفتح له الابواب امام موقعه الطبيعي في احضان العراق خاصة اذا عرف كيف يتعامل مع شروطها وواجباتها بدقة وذكاء.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.