مهما ارتفعت أصوات المسؤولين الأوروبيين وفي مقدمتهم الرئيس جاك شيراك، للناخبين الأوروبيين للإقبال على صناديق الاقتراع لانتخاب 732 نائباً عنهم للبرلمان الأوروبي، فإن "حزب الممتنعين" سيبقى الأكبر، والانتخابات لن تخرج من "الدرجة الثانية" من اهتمامات الناخبين.
ولا شك، أن انغماس الأوروبيين في حمى "بطولة الأمم الأوروبية" لكرة القدم، ليست سوى "قطار" الهروب من هذا الاستحقاق، الذي يشمل للمرة الأولى 25 دولة أوروبية. فالأسباب التي حوّلت انتخابات البرلمان الأوروبي الى اقتراع من الدرجة الثانية عديدة ومعقّدة باختلاف الدول الخمس والعشرين المشاركة. ومن هذه الأسباب ما هو أوروبي، ومنها ما هو وطني وحتى محلي. ولذلك فإن الأمل الذي يحدو بمختلف المسؤولين الأوروبيين وعلى رأسهم جاك شيراك، هو ألا يزيد "حزب الممتنعين" عن الدورة السابعة عام 1999 عندما وصل الى 53 في المئة والذي شكل تدهوراً قياسياً بالنسبة للانتخابات الأولى عام 1979 حيث كانت نسبة المقترعين بحدود 70 في المئة.
وفي محاولة جدية لدفع الناخبين الأوروبيين، عمد وزراء الخارجية الأوروبيين الـ25 الى إصدار نداء مشترك جاء فيه "للمرة الأولى يتقاسم 338 مليون ناخب أوروبي في برنامج للسلام والتضامن والأمن، ووضع شروط إشعاع أوروبي في العالم. ان هذا البرلمان مفتاح أساسي في البناء الأوروبي. والمشاركة في الاقتراع تعني أن المواطن الأوروبي سيأخذ مكانه للسنوات الخمس المقبلة في صياغة القرارات الحاسمة من أجل أوروبا ومن أجل المستقبل. أن أوروبا بحاجة الى برلمان يمثل التوجهات كافة وليعبر عن آمالكم وخياراتكم".
ووجه شيراك نداء للفرنسيين دعاهم فيه الى "إدراك أهمية مشاركتهم في الاقتراع، إذ أنه من المهم وجود نواب أقوياء ليؤثروا من خلال أحجام كتلهم في قرارات البرلمان".
مع ذلك، فإن 65 في المئة من الفرنسيين أبدوا عدم اهتمامهم بهذه الانتخابات، التي تعني زيادة شرعية البرلمان الأوروبي. ولعل الحجة الأوروبية الأولى هي هذا "العزف المنفرد لكل دولة أوروبية". ويرى الفرنسيون أنه لم ينجح المسؤولون في تحديد يوم موحد للاقتراع، وذلك بسبب تقاليد كل دولة على حدة، فكيف يمكن جمعهم حول قرارات أعظم وأخطر. ويبقى هذا الخلاف شكلياً مقابل الخلافات حول طبيعة الاتحاد الأوروبي ومستقبله. فالتعلق بالهوية الوطنية وعدم محوها في هوية أوروبية ما زال الهاجس الكبير في مواجهة دعوات من سياسيين كبار مثل فرنسوا بايرو زعيم حزب الاتحاد من أجل الديموقراطية الذي يطالب بإقامة "اتحاد الدول الأوروبية على غرار الولايات المتحدة الأوروبية". وإذا كان الفرنسيون يعارضون ذلك لتعلقهم بفرنسا وهويتهم القومية فإن ذلك لا يلغي رغبة غالبيتهم بإقامة أوروبا قوة عظمى، تلغي أحادية القوة ـ الأعظم للولايات المتحدة الأميركية والسؤال كيف يتم ذلك، طالما أن المشروع الأوروبي يقف أمام خط أحمر بحجم وصلابة الالتزام القومي لكل دولة؟!
الى جانب هذا العامل الأوروبي العام، فإن خصوصية كل دولة تشكل "بيضة القبان" في تحوّلات الرأي العام أمام هذا الاستحقاق. ولعل انخفاض نسبة النمو في الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا، واندماج هذا العامل بعامل ارتفاع نسبة البطالة، يجعل من ارتفاع عدد حزب الممتنعين طبيعياً، فالفرنسيون مثل باقي الأوروبيين، يريدون من خلال الامتناع عن الاقتراع، معاقبة حكوماتهم. وإذا كان الفرنسيون يريدون معاقبة حكومة جان بيار رافاران لفشلها في إخراج فرنسا من هذه الأزمة، فإن الناخبين في بريطانيا وإيطاليا، سيستغلون وجود استحقاق الانتخابات المحلية الى جانب الأوروبية لمعاقبة طوني بلير وسيلفيو برلوسكوني على موقفهمها من الحرب في العراق كما يؤكد الخبراء، بينما يتمتع رئيس الوزراء الإسباني خوسيه لويس ثاباتيرو بدعم واسع من الناخبين الإسبان يزيد عن عشر نقاط على خصومه لأنه وفّى بوعده وسحب القوات الإسبانية من العراق.
ولا تقف معاقبة الناخبين الفرنسيين لحكومة رافاران في الامتناع عن الاقتراع، وإنما في توجيه ضربة قد تكون قاضية له ولحكومته بعد انتخابات الأقاليم، فالمتوقع أن يخسر اليمين الانتخابات. وهذه الخسارة التي ستفتح لليسار مرة أخرى أبواب فوز لا يستحقه، فجبهة اليسار الديموقراطي ما زالت بلا برنامج يقول الفرنسي العادي كيف يمكن الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية.
وهذه الخسارة المتوقعة لليمين، التي قد تعني تغييراً حكومياً في فرنسا، ستؤدي عملياً الى رفع حرارة الصراع على الخلافة في مجالين، الأول وهو الملحّ والمباشر لأنه يتناول رئاسة "الحزب من أجل الرئاسة"، ذلك أن آلان جوبيه الرئيس الحالي سينسحب من الرئاسة ومن السباق عليها. ويبدو والصراع حامياً على الخلافة بين أسماء كثيرة منها آلان باروان المفضل من شيراك، ورافاران نفسه، وميشال أليوت ماري وزيرة الدفاع ونيكولا ساركوزي وزير المالية.
ويتداخل هذا الطموح من جانب ساركوزي مع صراعه على الخلافة في الرئاسة، فهو يريد تحويل الحزب الى حصن لا يقاوم لدى حسم اختيار اليمين الجمهوري مرشحه للرئاسة. والمعروف أن شيراك لا يريد مطلقاً أن يفوز ساركوزي في هذا التمثيل. والمشكلة أن الممثل الطبيعي والناجح كان جوبيه، لكن خروجه المرتقب من المسرح السياسي بسبب الحكم القضائي عليه فتح الباب أمام ساركوزي. ولذلك لم يعد في وجهه سوى دومنيك دو فيلبان وزير الداخلية الحالي.
وعلى الرغم من هذا الوضع المعقّد وضعف اليمين في فرنسا، فإن التوقعات تؤشر الى بقاء الغالبية داخل البرلمان بيد "الحزب الشعبي الأوروبي" الذي يشكل أكبر كتلة لليمين الأوروبي داخل البرلمان. لكن في أي حال، فإن بناء الاتحاد الأوروبي يبقى بيد زعماء دول الاتحاد وليس البرلمان الأوروبي!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.