أن تلحق "الغزالة سيغو (سيغولين رويال)" "بالأرنب" المستعجل ساركو (نيكولا ساركوزي) ليس غريباً. لكن أن تطاردهما "السلحفاة" فرانسوا بايرو وتهددهما فيتحالفا ضده، هذه هي المفاجأة الكبيرة.
حتى أيام معدودة كان بايرو وجهاً معروفاً في السباق الرئاسي يحتلّ المرتبة الثالثة بين ذزينة المرشحين وراء ساركوزي ورويال. لكن سرعان ما صعد بايرو ليصبح منافساً للاثنين معاً. وبعد أن كان يقال: "هل يمكن أن يكون رئيساً؟" أصبح يقال الآن، هل يمكن أن يكون رئيسنا؟" أكثر من ذلك، وبعد ان كان الفرنسيون يتساءلون عمّن سيكون الثالث في السباق إلى الرئاسة فرنسوا بايرو أم جان ماري لوبن؟ صار يقال: وماذا لو تكررت قصة انتخابات العام 2002 فوقع الاختراق ونجح "بايرو في دخول الدورة الثانية؟ والمفاجأة الكبرى أن بايرو هو الذي سيفوز كائناً من كان خصمه "ساركو" أو "سيغو".
حملة باكرة ومحصورة
الفرنسيون الذين يعشقون المقهى والقهوة والسيجارة والثرثرة يمتهنون ايضاً اختصار الاسماء والتعريفات في احاديثهم، ولذلك فإن سيغولين رويال أصبحت سيغو، وساركوزي اختصر بساركو، وحبل الاختصارات طويل جداً من أمثلته أن نقابة العمال اللصيقة بالحزب الشيوعي تختصر باسم )TGG( والمنافسة لها القريبة من الاشتراكيين )TDFC(.
المهم، أن الحملة الرئاسية التي بدأت مبكرة قبل أكثر من عام عندما أقدم المستعجل الدائم ساركو على ترشيح نفسه قبل أن يرشحه حزب "الاتحاد من أجل غالبية شعبية" )P.M.U( وعندما سارعت مجلة "نوفيل ابوسرفاتور" القريبة من الاشتراكيين إلى طرح سيغولين رويال المجهولة تحت عنوان لماذا ليست هي؟ ومنذ ذلك التاريخ والفرنسيون ينامون ويستيقظون على اخبار سيغو وساركو، مع أن لائحة الطامحين الراغبين والمترددين طويلة جداً.
هذا التمحور في الحملة الانتخابية، الذي لعب الإعلام دوراً أساسياً فيها، أقلق الفرنسيين على ما يبدو. فالديموقراطية تعني حق الاختيار عن سابق تصور وتصميم وإرادة حرة تتكامل بانتماءات حزبية، وما حصل نزع من الفرنسيين نسبياً هذا الحقّ، ولذلك بدأ البحث عن مرشح جدي يحمل أفكاراً اخرى تفتح افقاً جديداً وجدياً أمام أمة مأزومة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. ويبدو أن فرنسوا بايرو استطاع أن يحدث ثغرة في هذا السد الإعلامي الكبير، وخصوصاً ان جان ماري لوبن الذي أحدث مفاجأة العام 2002 حين اطاح زعيم الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان، لم يعد لديه جديد، ثم أن ساركو نجح في اختراق جبهته فقضم منها قسماً مهماً اقتنع بطروحاته وممارساته حول الأمن والهجرة الشرعية وغير الشرعية.
فرنسوا بايرو، ليس وجهاً جديداً على السياسة الفرنسية، لا بل سبق له أن ترشح إلى الرئاسة عام 1998 وحصل على 6.8% من الاصوات أي نحو مليوني صوت فرنسي، وقد سبق له ان كان وزيراً للتربية حيث حقق بعض النجاحات.
أبعد من ذلك، فرنسوا بايرو هو واحد من مجموعة كان يطلق عليها عام 1984 "الإصلاحيون أو دزينة القذرين" والمقصود بهذه التسمية المأخوذة من فيلم أميركي يحمل العنوان نفسه انهم مجموعة كومندوس من الشباب يريدون الوصول إلى أهدافهم. والمجموعة ضمّت أسماء معروفة في السياسة حالياً وهم: فيليب سيغان الذي انتخب رئيساً للبرلمان ويبدو انه خرج من عالم السياسة وفيليب دوفيلييه الفرنسي الارثوذكسي وهو يقاتل وحده ولم ينجح في تحقيق اختراق سياسي مهم أو مقنع. واتيان بانت الذي انتهى بسرعة وشارل ميلون الوزير السابق الذي اخطأ بالانجراف نحو مواقف يمينية متطرفة فخرج من السباق وميشال بارنييه الذي تولى وزارة الخارجية سابقاً وفرنسوا فيلون وهو نائب وزير وما زال المستقبل مفتوحا امامه وفرنسوا دو بير وقد سمّي وزيراً مرات عدة وميشال نوار وكان الوجه اللامع في المجموعة والذي راهن عليه اليمين كثيراً، لكنه انتهى سياسياً وتحوّل إلى التمثيل والكتابة بعد أن "احترق" في قضية عائلية ومالية. أما الحي الكبير بينهم الذي ما زال يحمل طموحه بالوصول إلى الرئاسة فهو فرنسوا بايرو.
ابن الريف
مُزارع ابن مزارع، ولد فرنسوا بايرو، في جبال البرينه عام 1950. وهو ربما السياسي الفرنسي الوحيد الذي ينفرد بهذا الارتباط المباشر والحقيقي بعمق الريف الفرنسي. فالآخرون ولدوا في أماكن متفرقة من هذا العمق كما يطلق على المقاطعات الريفية، لكنهم عاشوا في المدن فلم يعرفوا قساوة الحياة الريفية.
ولكي تكتمل تجربة بايرو القاسية لتصلب إرادته، فإنه عانى يتم الوالد باكراً، فاضطر لتوزيع وقته بين الدراسة في الصباح والعمل في المزرعة بعد الظهر. أكثر من ذلك، عانى وهو صغير "التأتأة" القوية التي كانت ستدفعه إلى العزلة بعيداً من رفاق المدرسة، لكنه بدلاً من ذلك داوى نفسه بنفسه، فحفظ آلاف أبيات الشعر وكان يقرأها بصوت عال حتى يعلو صوته على ضجيج الجرافة التي يتنقل بواسطته وسط الثلج ووحشة جبال البرينه بين المدرسة والمزرعة. الى أن نجح بتجاوز هذه "العاهة" الصغيرة وأصبح فيما بعد خطيباً معروفاً بين أقرانه السياسيين. وتأكيداً لتصميمه بتجاوز هذا الحاجز، اختار التعليم وهو يدرس لتحضير أعلى درجات التحصيل وهي "الاغريجة".
تزوج بايرو في العشرين من كاثوليكية متدينه مثله لينجبا معا عائلة كبيرة جداً حسب القياس الفرنسي وهي تضم ستة أولاد.
عناد بايرو ليس محصوراً بحياته اليومية فقط منذ أن اختار الانتماء الى الوسط، بعيداً عن حزب الأغلبية لليمين الديموقراطي لم يتراجع عن قناعاته ولم ييأس تخلى عنه العديد من رفاق الطريق لأسباب وقناعات سياسية أو حتى انتهازية ولم يتراجع. من هؤلاء فيليب دوفيلييه وشارل ميلون وآلان ميدلان وبيار مهانييري وفيليب دوست بلازي وأخيراً أبرز المقربين منه لويس بورلو وجيل دوروبان لينضما الى حكومة دوفيلوبان وفي كل مرة تركه واحد من رفاق الطريق، كان يزداد تصلباً الى درجة أنه الوحيد الذي قاوم جاك شيراك الحاصل على 82 في المئة من أصوات الفرنسيين، فرفض تسميته وزيراً للخارجية، مفضلا التغريد وحده في الوسط.
وسط حديث انساني
يؤمن فرنسوا بايرو بقوة وبوسط "اكثر حداثة من الاشتراكية واكثر انسانية من الليبرالية". وهو يرى أن الحكومة هي "مهمة وليست وظيفة أو منصباً". وهو يعتقد ان المجتمع الفرنسي في عز تحلله ويرى أنه قادر على اعادة تركيبه "لذلك يريد مصالحة الفرنسيين مع الديموقراطية واعادة العلاقات بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني". ويرى أيضاً أنه وهو "يعمل للفوز بالسلطة فانه يريد تقاسمها مع المواطنين. ولذا يحب ان يفكر الاجتماعي والاقتصادي بصوت واحد وكلمة واحدة. الى جانب ذلك كله فإنه منذ البداية "أوروبي حتى العظم".
أما الجديد الجديد الذي يطرحه بايرو على الفرنسيين فهو "أن الصراع بين اليمين واليسار يعود الى ما قبل التاريخ"، ولذلك فانه لا يريد أن يكون حزبه الأغلبية وانما "اعادة تشكيل أغلبية من أشخاص مهمين من اليسار واليمين يشجعان معاً من أجل خدمة فرنسا". وهذا الطرح هو الذي أثار غضب ساركو وسيغو ضده فاتحدا في حملة اعلامية ضده، ساركو يقول "إن فشل سلطة مشكلة من اليمين واليسار والوسط يعني قذف فرنسا نحو التطرف واليأس". بدورها سيغو تقول" الذين يدعون انهم ليسوا من اليمين واليسار غالباً ما يقعون في الجهة نفسها التي خرجوا منها". لكن يبدو أن هذا الجديد يلقى صدى لدى الفرنسيين الصامتين وهم أقوى "الأحزاب" بحسب كل نتائج الانتخابات السابقة. فقد مل الفرنسيون من هذا التنافس الذي لم يحل مشاكلهم وخصوصاً في مجالات البطالة والأمن.
مفاجأة أخيرة كشفتها الحملة الانتخابية الرئاسية. فالذين كانوا يرون قاعدة بايرو محصورة في شريحة الكادرات من الطبقة المتوسطة، تبين لهم أن بايرو عمد الى "غزو" الريف الذي يعرفه جيداً تماماً كما فعل شيراك ضد ادوار بالادور. كما انه نجح في تشكيل حلقات حوله من الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين والمهنيين. من دون أن يلزمهم بالانضمام علناً اليه. فالمهم ان يقدموا له أفكاراً ودراسات للمساهمة في التغيير. كما أنه في مواجهة الحصار الاعلامي له على الصيد الوطني في باريس، غزا الصحافة المحلية في المقاطعات البعيدة منجزاً بذلك حصاره للمركز باريس عبر الاطراف من الريف والمدن البعيدة.
قضية واحدة يعمل فرنسوا بايرو الذي صعد الى 19 نقطة في الاستطلاعات على الاستئثار بحلها وهي كيفية نقل فرنسا من الجمهورية الخامسة الى الجمهورية السادسة. فهو لا يسلم سره هذا لأحد. منتظراً فرصته للفوز ودخول قصر الاليزيه.
بعد هذا كله، يرى العديد من الفرنسيين أن فرنسوا بايرو "مثالي" أكثر مما يجب. لكن البعض الآخر يرى أن فرنسا بحاجة لمثاليته لأنها ليست منفصلة عن الواقعية الممتزجة بكبرياء وصلابة تحتاج اليهما فرنسا اليوم أكثر من الغد.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.