هل وقع "انقلاب عسكري" في وزارة الدفاع الأميركية، قاده الجنرالات ضد "المدنيين" الذين يديرون الوزارة وعلى رأسهم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد؟
"المدنيون"، كما يقول مصدر فرنسي أقام فترة طويلة في واشنطن، هم دونالد رامسفيلد وزير الدفاع، ونائبه بول وولفوويتز أو "وولفي" كما يدعوه الرئيس جورج بوش، ودوغلاس فايث الرجل الثالث في الوزارة، واليوت ابرامز المسؤول عن ملف الشرق الأوسط، وهو واضع خطة إعادة صياغة خارطة المنطقة التي تعني إسقاط اتفاقية سايكس بيكو ووضع خارطة جديدة، وهو معروف منذ مشاركته في ما يعرف بفضيحة "ايران ـ كونترا"، وموقفه المعارض لاتفاقات أوسلو ودعوته لإسقاط نظام صدام حسين، و"أمير الظلمات"، ريتشارد بيرل الذي، وإن كان ليس مسؤولاً في الوزارة، إلا انه أحد صنّاع القرار.
أما العسكر فهم جنرالات وزارة الدفاع أو البنتاغون الذين يتولون قيادة الجيوش الأميركية يدعمهم الجنرالات السابقون الذين خاضوا حروب ما بعد الحرب الباردة ابتداء بـ "عاصفة الصحراء" وانتهاء بأفغانستان مروراً بيوغسلافيا السابقة.
ويقول المصدر الفرنسي ان نقطة ضعف "العسكر" هي ان الجنرال تومي فرانكس لا يقول "لا" كثيراً، فهو ضابط منضبط جداً وقد استغل المدنيون جيداً هذا الطبع لديه خصوصاً أن رامسفيلد ليس جديداً في الوزارة ومعروف بنزعته السلطوية. ويتابع المصدر ان الخلافات بين العسكر والمدنيين بدأت في الأيام الأولى لإدارة الرئيس جورج بوش الابن، حيث اصطدم الطرفان وتحولا فوراً إلى معسكرين، خصوصاً بعد محاولة "المدنيين" فرض عملية تغيير واسعة متوافقة مع رؤيتهم الاستراتيجية للعالم في اطار "الحرب الوقائية". ولم يكن قد مضى تسعة أشهر على تولي جورج بوش الرئاسة، حين عقد اجتماع موسع كشفته الأوساط الإعلامية الفرنسية بين "المدنيين" والجنرالات ولم يؤد إلى المصالحة المرجوة، فتقرر ان يستقيل المدنيون في اليوم التالي، أي وللمصادفة، في 11 أيلول 2001، والباقي معروف إذ وقعت العمليات الإرهابية وتغيّرت كل قواعد المواجهة!
واستكمالاً لكل ذلك، فإن الرئيس جورج بوش الذي اقتنع نهائياً بعد مناقشات مع رامسفيلد ووولفوويتز بالحرب ضد العراق مع نجاحه بتأجيلها إلى بعد الضربة ضد افغانستان، وبدأ الإعداد للحرب ضد العراق وصدر الأمر بالإعداد للحرب في 1741-20021-. وفي خلال هذه الاجتماعات جرت مناقشة استراتيجيتين متعارضتين للحرب ضد العراق.
الاستراتيجية الأولى قدمها الجنرال داوننغ مستشار بوش لشؤون الحرب ضد الإرهاب، وهو رجل رامسفيلد، وقد عرض خطة مقتبسة من الحرب في أفغانستان تقوم على قصف جوي مركّز، وعمليات إنزال واسعة للقوات الخاصة. وقدرت الخطة عدد الجنود العاملين بين خمسين ألف جندي وسبعين ألفاً معظمهم من وحدات القوات الخاصة، والحرب في هذه الحالة لا تكون مدتها أكثر من عشرة أيام.
الاستراتيجية الثانية وهي كلاسيكية تقوم على التنسيق بين الأسلحة الثلاثة، أي قصف جوي مكثف وطويل ثم البدء بالغزو البري بنحو ربع مليون جندي. وإلى جانب الجنرالات الذين وضعوها، فإن مجموعة الجنرالات القدامى وأبرزهم كولن باول رئيس الأركان السابق ووزير الخارجية الحالي والجنرال انطوني زيني والجنرال نورمان شوارزكوف دعموا الخطة.
الرئيس جورج بوش حسم الموضوع واختار الخطة الأولى وبدأ الحشد للحرب. ولأن الجنرالات العاملين لا يستطيعون المعارضة العلنية، وعليهم إعداد الخطط، فإن "مجموع الجنرالات السابقين" تولت الحملة المناهضة للخطة الحربية التي اعتمدت. وقد اعتبرت تصريحاتهم نوعاً من محاولة "الظهور على المسرح" بعد استبعادهم عن التشاور أو لعب أي دور. إذ لم يكن معروفاً عندئذ ان الرئيس جورج بوش قد اتخذ قرار الحرب ضد العراق، أي تحديداً قبل عام أو أقل بأيام قليلة. وأبرز ما طرحه الجنرالات:
الجنرال انطوني زيني قائد وحدات المارينز وقائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، قال: "ان مهاجمة العراق ستخلق مشاكل جمّة. من المفيد جداً أن نسأل لماذا كل الجنرالات الذين خاضوا الحروب يشاطروني الرأي، في حين الذين لم يطلقوا طلقة واحدة لديهم هذه الرغبة بالدخول في الحرب".
الجنرال نورمان شوارزكوف قائد قوات الحلفاء في حرب الخليج الأولى ضد العراق عام 1991، قال بوضوح أكثر: "أمام التلفزيون يعطي رامسفيلد انطباعاً بأنه المسؤول الذي يدير كل شيء. الوضع مقلق. يوجد رجال أمضوا حياتهم في إعداد خطط في البنتاغون، وتجاهل هؤلاء الجنرالات والعقلانية التي اكتسبوها خلال العمليات والحروب من جهة، ووضع أشخاص ليس لديهم أي خبرة من جهة أخرى هو أمر مقلق للغاية".
الجنرال هوارد قائد القيادة المركزية الذي كان يفترض ان يتولى العمليات في الخليج قال: "يوجد شيء مؤكد وهو سيناريو خارج من الكوابيس يمكن ان يقع وهو وجود ست فرق للحرس الجمهوري وست فرق مدفعية ومدافع مضادة للطيران في بغداد وحولها والنتيجة سقوط الضحايا بكثافة من الجانبين".
الجنرال ويسلي كلارك قائد قوات التحالف عام 1997 وهو الذي قاد قوات حلف الأطلسي في كوسوفو، كتب (في صحيفة ليبراسيون الفرنسية) مستعرضاً الخطوط العريضة لخطة حرب الأيام العشرة التي يبدو انه كان مطلعاً عليها ثم طرح سؤالاً "ولكن في الحروب يوجد دائماً تطورات غير متوقعة، فماذا لو وقعت ومنها: تشبث قوات صدام حسين بكل مدينة وصولاً إلى بغداد؟ وماذا لو لم تقع انتفاضات في المناطق؟.. وإذا كان هدفنا إزالة أسلحة الدمار الشامل فإن معنى ذلك انه يتطلب بالضرورة أسابيع وربما أشهراً".
الخطة الاستراتيجية التي وضعها بطبيعة الحال الجنرالات، ورامسفيلد لا يكذب عندما يؤكد ذلك، ولكنها الخطة التي لم يكن يريدها الجنرالات في الحقيقة، سقطت في الميدان. ذلك ان حرب الأيام العشرة انتهت والقوات الأميركية لم تصل إلى الكوت وهي المنطقة التي قال عنها الجنرال كلارك "لم يكن يتصور الانكليز القادمون إلى المنطقة بكل المجد الذي حصلوا عليه انهم سيغرقون في خنادقها".
ويقول المصدر الفرنسي اياه ان "المدنيين" الذين فرضوا رأيهم على البنتاغون يعتبرون "الحرب لعبة"، وانها أكثر من ذلك "لعبة الكترونية"، وهم عندما يجلسون أمام شاشات غرفة القيادة في البنتاغون، يغرقون أكثر فأكثر في لعبة الضغط على الأزرار، وهم في كل ذلك يجهلون العنصر الإنساني الذي دائماً يغير شروط اللعبة ويسقط كل السيناريوهات.
الجنرال فرانكس لا يستطيع الاعتراف في عزّ الحرب انه أوقف تقدم القوات نحو بغداد، وأن ما يجري هو عملية إعادة انتشار واسعة. لكن التسريبات التي حصلت في الأيام الأخيرة تؤكد ان الجنرالات انقلبوا على المدنيين وفرضوا رؤيتهم للحرب، والدليل، كما ترى المصادر الفرنسية، تطورات عدة أبرزها:
استدعاء أكثر من 120 ألف جندي إلى الجبهة وفتح المجال أمام استدعاء قوات اضافية، مما يعني الالتزام بالخطة الكلاسيكية وهي نشر 250 ألف جندي في المنطقة وشنّ الحرب البرية ضد بغداد.
تصريح الجنرال وليام سكوت والاس قائد الفرقة الخامسة في العراق حالياً: "العدو الذي نقاتله مختلف مع الذي واجهناه في سيناريوهات الحرب التي أعددناها". وترجمة هذا الكلام ميدانياً انه يجب تغيير الخطط مع تغير طبيعة "العدو".
تصريح جنرال عامل داخل القيادة في العراق: "منذ متى يستسلم جندي لطائرة. الجندي يستسلم لجنود". وترجمة هذا الكلام أيضاً ميدانياً "يلزمنا المزيد من الجنود للتقدم في البر".
الجنرالات نجحوا نتيجة لحرب الأيام العشرة، واستعادوا القرار العسكري ميدانياً. وهؤلاء كما قال الجنرال فرانكس لسان حالهم "ان المعارك الأقسى ما زالت أمامنا".
والرأي السائد في الأوساط الفرنسية المعنية ان الجنرالات سيقاتلون الآن بكل طاقاتهم وقدراتهم النارية، دون اعتبار لحجم الخسائر العراقية، فالحرب ليست نتائجها محصورة الآن في العراق، وإنما هي امتدت إلى قلب القرار في واشنطن، من البنتاغون إلى البيت الأبيض!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.