انفرجت أسارير أكثر من نصف مليون طالب فرنسي وأهاليهم بعد انتهاء اليوم الأول من امتحانات البكالوريا، على خير. فالاضرابات التي تعمّ فرنسا منذ عشرة أيام، هددت هذه الامتحانات بالتأجيل، مع ما يعني ذلك من انعكاسات سلبية على الطلاب من جهة، واضطرابات ومشاكل في عملية تنظيمها، خصوصاً بالنسبة للمدارس المخصصة لاستقبال الطلاب الممتحنين. وعزز هذه المخاوف، مشاركة قطاعات المعلمين وسائقي النقل العام بكل أنواعه في الاضراب، وبروز ظاهرة التجمعات الصغيرة في مفاصل حساسة توقف الحركة حتى وإن لم ينخرط العمال والموظفون في الدائرة المعنية في الاضراب.
هذه الاضرابات، التي بدأت هادئة والتي تشهد تصعيداً يومياً خصوصاً على صعيد المواجهات والتظاهرات الطيارة المربكة للحركة، جاءت احتجاجاً على تقديم رئيس الوزراء جان بيار رافاران وحكومته مجموعة اصلاحات تتناول قطاعات مهمة خصوصاً مسألة التقاعد وسنوات الخدمة، وهي قطاعات تطالب مختلف الأحزاب والقوى الفرنسية بإجراء اصلاحات سريعة فيها.
الرئيس جاك شيراك، الذي التزم الصمت في البداية، ربما لأنه على موعد سياسي في مخاطبة الرأى العام الفرنسي وهو 14 تموز ذكرى الثورة الفرنسية، عاد وخرق هذا الصمت فتحدث أمام عدد محدود في مدينة تولوز، ويبدو ان التصعيد الحاصل من قبل المضربين والمخاوف الكبيرة من تعريض سلامة وأمن المجتمع الفرنسي للخطر، دفعت شيراك للتدخل فأكد على جملة مواقف تؤشر إلى عدم تقديم تنازلات للنقابات والأحزاب المشاركة في الاضرابات، وبعد ان أكد شيراك على "التشدّد"، أشار إلى "ان الاصلاح ليس هدفاً بحد ذاته، وانه أحياناً يصبح كما اليوم ضرورياً للمحافظة على ما يوحدنا ويحفظ مجتمعنا". ووضع شيراك هذا الاصلاح في اطار التغيير الحاصل في زمن العولمة فقال: "في عالم سيتغير، يحب نحن أيضاً أن نتغير حتى نحافظ على مكتسباتنا". وبطبيعة الحال دعا شيراك الجميع وخصوصاً المعلمين "لتحمل مسؤولياتهم" وأن يكون "الحوار لا المواجهة السبيل للعثور على حلول".
وكانت جلسة البرلمان يوم الثلاثاء الماضي هي التي أثارت المخاوف، من ان يسقط في فخ الرفض والمواجهة. فقد تبادل نواب الأغلبية مع كتلة الحزب الشيوعي "الحوار" عبر نشيدي "المارسيلياز" من جهة و"الأممي" من جهة أخرى ما كاد يشعل مواجهة خطيرة تتجاوز ملف الخلاف الى السياسة الوطنية كلها، وأن يؤدي كل ذلك الى تقويض العمل البرلماني.
ويبدو أن جبهة المعارضة اليسارية الديموقراطية في وضع دقيق وصعب، فهي رغم اتفاقها على وجوب التقدم بإصلاحات عميقة الا انها وجدت نفسها مضطرة للتصعيد لئلا تخسر رصيدها الشعبي من جهة، الى جانب مواجهة تسوية حسابات داخل كل حزب. فالحزب الاشتراكي الذي لم يخرج بعد من امتحان اختيار فرنسوا هولند أميناً عاماً للحزب وجد نفسه بين مطرقة النقابة المحسوبة عليه )TDFC( التي وقفت الى جانب الحكومة وإصلاحاتها، وسندان الانتقادات الداخلية من ميشال روكار وميشال شاراس الذي يمثل صوت "الميترانية الأرثوذكسية".
وبدوره، فإن الحزب الشيوعي الذي لم يخرج بعد من حالة النقاهة، يجد نفسه في زاوية الهجوم من اليسار المتطرف المطالب بتعميم الاضرابات وتحويلها اضرابات مفتوحة، وكل ذلك في وقت يبدو فيه "الخضر" في حالة غيبوبة حقيقية!
والطريف بالنسبة لجبهة اليسار الديمقراطي وخاصة الحزب الاشتراكي، انه وهو يحاول التوفيق بين الحاجة الى الاصلاحات والمحافظة على حضوره الشعبي، تلقى "طعنة" في ظهره من طوني بلير الاشتراكي. فقد اختار بلير الذي التقى الرئيس جاك شيراك لإنجاز خطوات المصالحة التي بدأت في قمة افيان، وتزايد الخلافات بين لندن وواشنطن حول ايران، دعم جان بيار رافاران وإصلاحاته علناً. فقد حيا بعد اللقاء "شجاعة جان بيار رافاران الذي يقدم على مواجهة التحديات المهمة لفرنسا وأيضاً لبريطانيا ودول أوروبية أخرى. وقد حدد بلير هذه التحديات بقوله: كل الدول النامية تواجه التحدي نفسه، وهو محاولة جعل الخدمات العامة والحماية الاجتماعية منسجمة مع متطلبات العالم الحديث، وهذه المهمة تتطلب قرارات صعبة ورافاران لديه الشجاعة الكاملة للقيام بذلك".
مرور "امتحان" امتحانات البكالوريا على خير لا يعني أن الأزمة قد انتهت. فهي ما زالت في أول الطريق، لأنه اذا كان من مصلحة الحكومة تهدئة الموقف فإن مصلحة اليسار وخصوصاً المتطرف اشعال الموقف خصوصاً وأن الفرنسيين سيدخلون فترة الصيف وعندها لا يعود يفيد التصعيد لأن 63 في المئة منهم سيكونون في العطلة بين أول تموز وأواخر آب المقبل!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.