تبدو باريس، بعد مئة يوم من القلق، وكأنها تنام على "حرير" تطوّر الأزمة في العراق، الذي سيجبر الأميركيين عاجلاً أم آجلاً على العودة إلى مظلة الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة، بعدما خرجوا بعيداً عنها في الحرب ضد العراق. ولذلك قال جان مارك دولاسابليير مندوب فرنسا في الأمم المتحدة وبوضوح شديد: "نحن ندعم بقوة وبشكل كامل النمو المتواصل لمسؤوليات الأمم المتحدة في العراق. ان فرنسا مقتنعة بأن كل شيء يمكن ربحه من خلال مشاركة دولية ومقاربة شاملة للمشكلات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي تضع الأمم المتحدة في قلب مسار إعادة الإعمار".
وترى أوساط فرنسية مطلعة ان الكرة الآن في الملعب الأميركي، بعدما عانت طوال أكثر من مائة يوم، أي غداة انهيار النظام العراقي السريع والمفاجئ، من التحرك تحت "سيف" التهديدات الأميركية التي شملت: المقاطعة الاقتصادية، والتي تمحورت بحملة منظمة عبر الانترنت واللافتات والقمصان الملونة لمقاطعة البضائع الفرنسية، وقد وصل الأمر إلى تنظيم حملة مبرمجة لكسر زجاجات النبيذ الفرنسية في حلقات شعبية مفتعلة والمقاطعة العسكرية سواء بالدعوة إلى تقليص التعاون العسكري أو حتى بالعمل لتقويض معرض لوبورجيه للطيران الذي لم تحضره سوى نصف الشركات الأميركية وعلى مستويات منخفضة، اضطر الرئيس شيراك على أثرها إلى عدم زيارة الجناح الأميركي، فضلاً عن التهميش السياسي إلى درجة أن الرئيس جورج بوش حضر قمة الثمانية الكبار في ايفيان ولم يحضرها، فحضوره كان رمزياً ومحملاً "بالرسائل" التي اعتبر بعضها مهيناً لفرنسا، من دون ان ننسى العمل لاستبعاد أي دور فرنسي وأوروبي من ملف النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وأخيراً وليس آخراً مهاجمة فرنسا في عقر دارها الأوروبية بالكلام عن أوروبا القديمة والجديدة إلى درجة ان شيراك خرج على التقاليد الديبلوماسية ووجه تهديداً مباشراً إلى دول أوروبا الشرقية سابقاً والتي تستعد للانضمام بأنها ما زالت على لائحة الانتظار وقبولها يتطلب موافقة اجماعية من الأعضاء الخمسة عشر من الاتحاد وليس الأغلبية، أي أن الفيتو الفرنسي قائم!
وتبني باريس تفاؤلها على أساس قاعدة ثابتة تؤكد صوابيتها التطوّرات اليومية في العراق، وهذه القاعدة كما حددها جان مارك دولاسابليير هي: "ان المشكلة في العراق سياسية وليست عراقية"، ومما يزيد ارتياح الفرنسيين إلى صحة موقفهم أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان الذي يعرف الآن جيداً أن الأميركيين لا يؤيدون التجديد له في منصبه وأنهم يعملون لإعداد خليفة له قد يكون ممثله في العراق البرازيلي سيرجيو فييرا دي ميللو، خرج عن تحفظاته الديبلوماسية وأخذ يضع النقاط على الحروف. ولذلك أعلن أن مختلف القوى العراقية التي قابلها ممثله في بغداد وأورد شهاداتها في تقريره "طالبت بالعودة السريعة إلى السيادة العراقية"، وأن الوضع في العراق "ازداد سوءاً على جميع الصعد المعيشية والأمنية خاصة في بغداد حيث الأمن صار المشكلة الأولى. وأن الديموقراطية لا يمكن فرضها من الخارج، وأن الوضع الحالي لحقوق الإنسان في العراق يشكّل قلقاً أساسياً إلى درجة أن ممثلي ذكّر السلطات (الأميركية) بضرورة الاحترام الكامل للقانون الدولي".
وترى الأوساط الفرنسية إياها أن الطلب الأميركي غير المباشر بمشاركة فرنسية عسكرية في قوة دولية في العراق، سيتحول عاجلاً أم آجلاً إلى طلب رسمي في إطار الأمم المتحدة. ومما يطمئن فرنسا إلى ذلك انها مثلما قادت الحركة المضادة للحرب ضد العراق ونجحت، فإنها ايضاً استطاعت وضع "مسار" للتعامل مع الطلب الأميركي، ونجحت في استقطاب حتى الهند إلى موقفها فجاء رفض نيودلهي لإرسال 25 ألف جندي إلى العراق إذا لم يصدر قرار واضح من مجلس الأمن يحدّد بدقة شروط عملها وواجباتها، ليطلق رصاصة الرحمة على كل الخطة الأميركية بإدخال الجميع في "الحمام العراقي" من دون ضمانات دولية.
وتشدّد المصادر نفسها على أن الخسائر العسكرية للقوات الأميركية ـ حتى الآن ـ محمولة ومقبولة في ظل تحمل ثقل حالة الاحتلال للعراق، لكن هذه الخسائر تصبح غير مقبولة إذا ازدادت خلال الأشهر الثلاثة القادمة أي مع اقتراب افتتاح الحملة الانتخابية الرئاسية ووصلت إلى ثلاثة أو أربعة قتلى في اليوم الواحد. لكن الأسباب التي تربك هذه الإدارة الأميركية وتضعها في "مسار" العودة إلى الأمم المتحدة كثيرة أبرزها:
تطوّر "المقاومة" في العراق، وتحولها إلى مقاومة وطنية واسعة وعريضة، ولذلك فإن مقتل عدي وقصي صدام حسين، يريح الأميركيين وخاصة "الصقور" في الإدارة على المدى القصير، وإذا تحقق مقتل أو اعتقال صدام حسين سريعاً فإن هذا الارتياح سيكتمل. لكن على المدى المتوسط، فإن التخلص من هذا "الثلاثي" يزيل في الوقت نفسه من أمام فئات عراقية واسعة وخاصة الشيعة منهم عامل الخوف من استغلال صدام حسين للمقاومة سواء لتلميع صورته الوطنية أو لاستعادة السلطة. ولذلك، فإن الأميركيين مضطرين للعمل بسرعة لحل المشكلات اليومية، وإلا فإن الأميركيين سيواجهون يوماً بعد يوم انتشاراً أوسع للمقاومة، وتنظيماً أكثر دقة!
إن الأميركيين اكتشفوا بعد مائة يوم أن وطنية العراقيين ثابتة وقوية وصلبة، وأن الرهانات على عراقيين شيعة مشدودين إلى إيران وكرد ملتفين حول الاستقلال الداخلي ضد عراق واحد قد فشلت. ويذكر الفرنسيون هنا بما قاله الرئيس شيراك علانية في الإليزيه من ان الأميركيين لا يعرفون عمق الوطنية العراقية، وأن عليهم معرفة كيفية التعامل معها وذلك في عزّ المعارك العسكرية في جنوب العراق. ولا شك، تضيف هذه الأوساط الفرنسية، في أن هذه الوطنية العراقية ستصبح أكثر نضوجاً وعلنية وشراسة كلما تأخر الأميركيون في إعادة السيادة الوطنية الكاملة للعراقيين واشتراكهم أولاً وأساساً في صياغة دستور وطني بحرية كاملة واختيار قيادة عراقية تتمتع بالشرعية الشعبية والسياسية العراقية والاعتراف الدولي بها، وكل ذلك تحت شعار جرت كل مناقشات الأمم المتحدة حوله بحضور الأمين العام هو "العراق للعراقيين".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.