"حريق سياسي" اضيف الى مسلسل الحرائق الطبيعية والمفتعلة في غابات فرنسا، وإذا كانت الثانية قد التهمت واحدة من أجمل هذه الغابات، وحولتها الى أرض يباس، فإن الأولى التي أصبحت تعرف باسم "قضية بيتانكور" تهدد الحكومة التي يرأسها جان بيار رافاران.
اما "عود الثقاب" الذي أشعل الحريق وهو صورة طائرة "هيركوليس ـ 130" في مطار مانوس في البرازيل، فقد دفع في وقت كان منظم الدولة الفرنسية في الخارج. فالرئيس جاك شيراك في جزر الباسيفيك وجان بيار رافاران في المغرب، وثمانية عشر وزيراً يتوزعون بين زيارات رسمية والعطلة الصيفية.
وقد أدى هذا الغياب كما يحصل في حالة تأخر رجال الإطفاء، الى اضطرام النار، وتحول الخبر الصغير الى "قضية دولة" تطرح مجدداً السؤال الدائم: هل الهدف يبرر الوسيلة حتى ولو كان الهدف انسانياً؟ وماذا لو نجحت العملية؟ هل تذكر أحد طبيعة هذه الوسيلة غير السياسية؟
والقصة من نهاياتها حتى يمكن فهم بداياتها وأبعادها.
انغريد بيتانكور كولومبية من أصل فرنسي، ترشحت للانتخابات الرئاسية في كولومبيا عن "الخضر"، ومن اجل ذلك خاضت حملة قوية ضد "مافيا" المخدرات والاضطرابات السياسية في كولومبيا. وفي 23/2/2002 اختطفت وأصبحت رهينة سياسية لمجموعة "ثورية" كولومبية معروفة باسم "القوى المسلحة الثورية الكولومبية"، الناشطة في أدغال الامازون على الحدود بين كولومبيا والبرازيل. ويبدو في شريط الأحداث، أن السلطات الفرنسية على أعلى المستويات قررت العمل لإطلاق سراح انغريد بيتانكور.
حتى الآن، يبدو دومينيك دوفيلبان وزير الخارجية الفرنسي، وحده في مواجهة القرار. فالعملية كلها جرت بالتنسيق بين الخارجية الفرنسية وجهاز المخابرات الخارجي (DGSE). ولتحقيق نجاح العملية توجهت في 13 تموز الجاري طائرة "هيروكوليس ـ 130" الضخمة الى مانوس في البرازيل وعلى متنها ديبلوماسيون فرنسيون ورجال من جهاز الاستخبارات الذي يشكل ضباط من مختلف الأسلحة، العمود الفقري للجهاز. وهنا جرى ما لم يكن متوقعاً، ذلك أن رجال "القوى المسلحة الثورية"، لم يحضروا، والسلطات البرازيلية طلبت من الطائرة مغادرة أراضيها فوراً، مما أفشل العملية كلها، فبقيت انغريد بيتانكور رهينة لرجال العصابات الكولومبيين، في حين أخذت حكومة جان بيار رافاران "رهينة" لكل الأسئلة المشروعة الممكنة والمتخيلة، وكل ذلك بانتظار الحكم النهائي عليها.
الرئيس جاك شيراك الذي يقوم بجولة من أجل "الذاكرة" في كاليدونيا الجديدة، اعتبر لدى نشر صورة الطائرة في صحيفة "الموند" أن "كل ذلك مجرد ضجة خاطئة". لكن مع تحول النار الى "حريق"، اعترفت كاترين كولونا الناطقة الرسمية باسم الإليزيه "أن الرئيس أعطى موافقته على مبدأ "العملية الانسانية"، وهذا كما يرى الخبراء طبيعي أي أن الرئيس لا يتدخل في تفاصيل مثل هذه العمليات، وقد سبق وأن حصل ذلك مراراً في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران. وبذلك وقع كل ثقل العملية على دومينيك دوفيلبان، خاصة وأن رئيس الوزراء اكتفى وبناء على اشارة من وزير الخارجية الموجود معه في المغرب بالقول: "لقد جرت العملية بشفافية كاملة وبناء على طلب عائلة انغريد بيتانكور والعملية تمت بسرعة كما هي العادة في مثل هذه العمليات".
وقد رأى الكثيرون في هذا التفسير للعملية أن رافاران لم يكن على علم كامل بالعملية وتفاصيلها.
وقبل الدخول في الأسئلة المطروحة خاصة على الصعيد الفرنسي، فإن سؤالاً كبيراً يدور حول أسباب فشل العملية. واستناداً الى رئيس تحرير صحيفة "كارتا كابيتال" البرازيلية الذي كشف العملية فإن السلطات البرازيلية لم تكن على علم بالعملية، وأن كل ما تعلمه هو طلب فرنسي لهبوط طائرة عسكرية في مطار مانوس وهي في طريقها الى غوايانا الفرنسية. وهي لم تكن على علم بحمولتها وطبيعة وهوية ركابها. وعندما أصرت سلطات مطار مانوس على معرفة هوية الركاب فوجئت بطرح قائدها الحصانة الديبلوماسية، باعتبار أن ركابها ديبلوماسيون فرنسيون. هذا الطلب أثار شكوك السلطات الأمنية البرازيلية، وقد تعززت شكوكها بعد أن أخبرها طيار تاكسي ـ جوي برازيلي استئجاره لمهمة تخص ركاب الطائرة على الحدود الكولومبية ـ البرازيلية في غابات الأمازون. وأضيف الى كل ذلك طبيعة الخط الجوي للطائرة، اذ لماذا أطالت الطائرة خط طيرانها في حركة التفافية ألف كيلومتر؟
وفي المعلومات التي رواها بوب فيرنانديز رئيس تحرير صحيفة "كارتاكا بيتال"، أن السلطات الفيدرالية البرازيلية حرّكت مراكزها التسعة على الحدود، مما أثار مخاوف رجال "العصابات الثورية" الكولومبية الذين يقاتلون منذ أربعين عاماً في المنطقة، فألغوا كل "الصفقة"، ولم يتم تسليم انغريد بيتانكور، وطارت الطائرة الفرنسية بحمولتها بسرعة بناء على أمر من السلطات البرازيلية!
هذا المسلسل الخارج من قصص الجاسوسية والعمليات السرية، أثار أسئلة كثيرة أبرزها: ماذا كان يوجد في الطائرة الضخمة؟ هل كانت الصفقة تتضمن تسليم أسلحة أم أموال الى "الثوريين"؟ هل كانت القوى العسكرية الموجودة في الطائرة تنوي القيام بعملية تحرير بالقوة للرهينة الفرنسية الكولومبية؟ هل كانت الطائرة تحمل معدات طبية وأطباء لمعالجة الرجل الثاني في حركة التمرد الكولومبية وتقديم الباقي معونة طبية لهم؟
والأهم من كل هذه الأسئلة.. "من الذي مرّر وكشف أسرار العملية لصحيفة "الموند" فرمى بعود الثقاب وسط هشيم أزمات كورسيكا والمياومين في المسرح والسينما وجوزيه بوفي؟
صحيفة "الموند" نفسها أشارت في عدد لاحق الى أن المتهم الأول هو نيكولا ساركوزي وزير الداخلية والنجم الصاعد في عالم السياسة الفرنسية. وأنه قام بذلك بعد أن واجهته القضية وهو في زيارة رسمية في كولومبيا في 23 تموز، وهو لا يعلم عنها أي شيء، لما أحرجه أمام الكولومبيين. ولذلك قرر الانتقام من خصميه جان بيار رافاران ودومنيك دوفيلبان وإزاحة الثاني من درب منافسته في الانتخابات الرئاسية.
وسواء صح هذا الاتهام أو لم يصح، فإن فشل العملية حرم جاك شيراك من اعلان نهاية سعيدة لمشكلة بيتانكور في 14 تموز أثناء مداخلته التلفزيونية المعتادة بمناسبة العيد الوطني وفي الوقت نفسه عجل في فتح ملفين، الأول السباق على الانتخابات الرئاسية بين المرشحين المتعددين في اليمين الجمهوري، طارحاً في الوقت نفسه ما اذا كانت دورة رئاسية ثالثة لشيراك تشكل الحل الأمثل حتى نضوج الظروف كلياً للمرشح الذي يضمن النجاح له ولمعسكره.
والثاني مسألة التغيير الوزاري في الخريف المقبل وما اذا سيكون محدوداً أم شاملاً. وفي الحالتين انتقال دوفيلبان "السوبر وزير"، الناجح جداً على المسرح الدولي والذي لم يستطع بناء علاقات متينة داخل وزارتها الحساسة جداً في تركيبتها الادارية وكادراتها اتهاماً الى وزارة أخرى، تفتح له الباب للمشاركة والمساهمة في القرار الداخلي، لأن خوض الانتخابات الرئاسية يقتضي التعاون بين المرشح والناخبين الفرنسيين، من خلال الوزارات العامة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.