باريس لا تنام عادة. الساهرون يجعلون ليلها نهاراً، وباريس هي الأغنى بين العواصم بكل ما يرضي الذين لا ينامون حتى يتناولوا فطورهم الصباحي، في جادة الشانزليزيه خلال قيام عمال البلدية بتنظيفها وغسل زواياها وأزقتها.
لكن ليلة الرابع من تشرين الأول كانت للعام الثاني على التوالي "ليلة بيضاء" غريبة في باريس تفاجئ العالم دائماً باحتفالاتها الغرائبية. هذه الليلة لم يكن رواد الليل هم ملوكها فقط، بل تحول كل طفل وامرأة ورجل الى "وطواط" يتجول ليس في المقاهي والملاهي والأزقة الغنية بالأمكنة والعناوين الخاصة جداً، وإنما يتجوّل في المتاحف والمسابح والقصور، وسط اجواء احتفالية وتحت أضواء تفنن في توزيعها بعض كبار الفنانين أبرزهم وليام فوريست راسم عروض فرقة باليه فرانكفورت، الى موسيقى كلاسيكية تصدح في كل مكان.
مليون فرنسي تجولوا حتى الصباح في باريس، طوال هذه الليلة البيضاء. قصر البلدية الذي يقع وسط باريس، كان محور الجولة. بعضهم اختار الانطلاق منه والبعض الآخر فضّل الختام به. رئيس البلدية برتران ديلانوي تجول سيراً على الأقدام وسط باريس، قفز فوق قلقه الداخلي وتحذيرات الشرطة ومضى "يسرح" وسط المتجولين. ففي مثل هذا اليوم من العام الماضي، كاد يفقد حياته نتيجة اعتداء تعرض له من رجل مختل العقل. ويبدو أن ديلانوي الاشتراكي، كان مطمئناً الى القبضة الحديد لوزير الداخلية نيكولا ساركوري، الذي نشر 2200 دركي وشرطي إضافي في الأماكن الحساسة والمفاصل الخطرة في دوائر باريس الغنية بالقادمين من الضواحي!
قصر البلدية تحول، وكما أراده الفنان الأميركي وليام فوريست الذي اختار أوروبا مقراً منذ عشرين عاماً، الى مسرح حيّ وكل زائر له أصبح لاعباً يشاهد نفسه ويمتزج بالناس المحتشدة. فقد امتزجت أضواء الكاشفات الملونة بكاميرا الفيديو، لكي تتحول كل حركة لأي زائر الى رسم على جدران قصر البلدية.
أما قنال سان مارتان، التي تكون ضفافها في الصيف ملاجئ للعاشقين، ويتحول في الشتاء، بعض جليدها الى مكان رحب للتزلج، فإن طلاب المدرسة الوطنية العالية، الذين أخذوا شيكاً على بياض لإضاءة القنال نجحوا في التلاعب بالأضواء والألوان من جهة، ومن جهة أخرى بدلاً من تركيز الأنوار على جسور القنال، عمدوا الى إضاءة قعرها، فجرى تمازج غريب بين مياه القنال والأضواء التحتية إضافة الى الضوء الأخضر الذي نشر على الأشجار، فبدت وكأنها في يوم ربيعي مع أن باريس تعيش أيام الخريف الباردة باكراً هذا العام.
يبقى أن الأطفال كان أيضاً لهم "لعبتهم" الخاصة في هذه الليلة البيضاء الطويلة. فقد فتح مسبح الدائرة العاشرة وهو الأضخم والأجمل، وحولت مياهه الى زرقاء آتية من المحيط وسقفه أبيض وكأنه نهار ساطع. وكل ذلك على وقع موسيقى "أعراس فيغارو" و"لاترافياتا" وغيرها. والذين لم تعجبهم هذه الموسيقى وأرادوا أن يعيشوا ضجيج مراهقتهم توجهوا الى قاعة "لوزيينت" لسماع موسيقى أو صخب "التكنو".
وبين كل هذه الأجواء الاحتفالية، بقيت متاحف باريس مفتوحة، خصوصاً اللوفر والدورسيه، فتمتع القادمون من خارج العاصمة بمشاهدة الموناليزا، والتحف المصرية وغيرها بعيداً عن "عجقة" النهار وضجيج السياح، وكل ذلك تحت أضواء راقصة وزعتها مراكب خاصة انتشرت في نهر السين. وبدورها شهدت مكتبة فرنسوا ميتران الوطنية القابعة على ضفاف السين والمطلة على "بيرسي فيلاج" عرضاً على جدرانها الزجاجية التي تعلو 32 طبقة، من الصوت والأضواء، فاختلطت الأحرف بصور زيدان وهو يضرب الكرة، مع صور لا تحصى لهذا الزمن المسرع في حركته، حتى يبدو كل الزحام الذي تعيشه باريس وكأنه مجرد نقطة في بحر!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.