افتتاح معرض في معهد العالم العربي في اطار سنة الجزائر لا يستدعي حضور الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الى باريس. لكن هذه الزيارة ومهما بدت قصيرة لكونها لم تتجاوز ساعات عدة تخللها غداء عمل مع الرئيس جاك شيراك، كانت طويلة في عدد الملفات التي بحثت وغاية في الأهمية من حيث توقيتها.
القمة الرئاسية الفرنسية ـ الجزائرية التي أصبحت عادية بعد أن كانت قبل ثلاثة أعوام أمراً استثنائياً يتطلب مفاوضات وتحضيرات وشد حبال حول اصغر التفاصيل، جاءت في ظل ارتفاع حرارة المواجهة داخل الجزائر نتيجة لدخولها دائرة الاستحقاق الرئاسي، من جهة، وزيارة الدولة للرئيس شيراك للمغرب. وبين الملف الداخلي المشتعل، وملف العلاقات المغربية ـ الجزائرية، يبدو الموقف الفرنسي حساساً ومهماً، خاصة وأن الشأن الجزائري يكاد ان يكون شأناً داخلياً.
واستناداً الى مصادر فرنسية وجزائرية مطلعة، فان باريس التي تعرف جيداً أهمية الدور الذي لعبه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في عملية اعادة بناء العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية، يعنيها داخلياً استقرار الجزائر، لأن هذا الاستقرار يطمئن فرنسا التي تعتبر مثابة الضفة الشمالية للجزائر التي يعيش فيها نحو مليون جزائري بين مقيم شرعياً وآخر بلا اقامة شرعية. كذلك فان باريس التي تعرف جيداً وبدقة مراكز القوى والتوازن القائم بينها الى جانب الحساسية الجزائرية المطلقة من أي تلميح لتدخل فرنسي في شؤونها الداخلية، لا تريد أن يكون موقفها مكشوفاً في معركة رئاسية لها استلحاقاتها وتأثيرها لسنوات قادمة على طبيعة العلاقات المشتركة.
وبما يتعلق بالملف المغربي ـ الجزائري، فان باريس التي كان قلبها دائماً الى جانب المغرب في قضية الصحراء، تريد في الوقت نفسه التوصل الى الفصل بين ملف الصحراء واستقرار العلاقات المغربية الجزائرية، الى أن يأتي الوقت الذي يصبح فيه مسار التسوية والحل ممكناً، وفي الوقت نفسه تعرف جيداً أنه في هذه المرحلة التي تشهد فيها الجزائر هذا التصعيد في المعركة الرئاسية، لا يمكن للرئيس بوتفليقة تقديم أي تنازل حول ملف الصحراء، لأن المؤسسة العسكرية بكل فروعها لا تقبل به حالياً وتعتبره تجاوزاً على الوطنية الجزائرية بصرف النظر عن المصالح الخاصة وجهود اقطابها وتياراتها للمحافظة على مواقعها في مراكز القرار.
هذه المواجهة الحامية بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ووزيره الأول السابق بن فليس، ليست سوى الجزء الصغير المرئي من جبل الجليد الضخم الذي يتنقل في المحيط الجزائري ويهدد بتحويل أي طرف، الى "تيتانيك" مهددة بالغرق لمجرد الاصطدام به. فهذا الجبل يتداخل فيه الصراع السياسي مع الاقتصادي والاجتماعي مع السلطوي، وكل ذلك وسط دائرة النار المستمرة منذ عقد نتيجة الحرب مع الاسلاميين المتطرفين، والتي وان خفت وطأتها الا انها ما زالت تحت الرماد في أرض قابلة دائماً للحرائق!
واذا كان الانقسام بين الرئيس ووزيره الأول، السابق، جاء نتيجة للطموحات الرئاسية بالتحديد، فانه تحول الى ما يشبه انهيار الحجر الأول في لعبة الدومينو الجزائرية. فالانقسامات امتدت من حزب جبهة التحرير الجزائرية لتصل الى المؤسسة العسكرية للمرة الأولى. ذلك ان انقسام جبهة التحرير يشكل حدثاً تاريخياً، اذ ان الحزب الشريك في السلطة منذ الاستقلال، تحول وبعد انقسامه بين الرئيس والأمين العام الى حزب سياسي يعيش على وقع الصراعات داخل الدولة. وبذلك فقد موقعه التاريخي الذي عرف عنه وهو الحزب ـ الدولة، ليصبح الحزب والدولة. وربما يكون هذا التحول اذا ما تأكد بعد الانتخابات الرئاسية، بداية لدخول الجزائر مرحلة التعددية الحزبية، خارج الحزب ـ القائد أو المؤطر كما هو الوضع منذ الاستقلال.
وبدورها فان المؤسسة العسكرية، التي يشكل جنرالاتها، أقوى "حزب" بين كل الأحزاب، تعرضت لأولى مرة لانقسام حاد، بعد أن كانت خلافاتها الماضية تحل في سرية مطلقة، وتبقى خلافات الجنرالات مجرد خلافات محدودة على المواقع والنفوذ. اما هذه المرة، وبسبب جهد خاص من الرئيس بوتفليقة فان الانقسام جعل الجنرالات طرفين، احدهما مع بوتفليقة والآخر ضده. فالرئيس الجزائري، السياسي المؤسس في الدولة الجزائرية منذ الاستقلال، يعرف جيداً المؤسسة العسكرية وقواها، ولذلك عمد منذ وصوله الى الرئاسة بموافقة ودعم هذه المؤسسة الى استقطاب ضباط كبار الى صفه. وقد نجح في استبعاد عدد منهم وترقية ضباط آخرين، وذلك الى درجة أن الرجل القوي في الجنرالات وهو الجنرال محمد العماري يحسب الى جانب بوتفليقة، بدلاً من ان يكون كما كان دائماً فوق الجميع. كذلك فان الانقسامات داخل المؤسسة الأمنية القوية والفاعلة أصبحت مكشوفة بين طرف يقوده اسماعيل العماري مدير المخابرات الخارجية وطرف يقوده توفيق مدين مدير الأمن الداخلي.
والمهم في كل هذه الانقسامات انها تتم على وقع وضع اجتماعي واقتصادي صعب جداً، ولذلك فان السؤال الكبير هو ماذا يحصل اذا لم يتم تأمين المساكن لضحايا الزلزال قبل بدء الشتاء؟ واذا كان بوتفليقة وبن فليس يتنافسان على استقطابهم عبر الحديث اليومي المتزايد عن تأمين المساكن لهم، لكسب أصواتهم، فان عدم الوصول الى نتائج عملية، قد يفتح الباب لانفجار اجتماعي، يتداخل فيه الوضع الاقتصادي الصعب للجزائريين حيث البطالة التاريخية التي تتجاوز 28 في المئة، مع مخاطر خصخصة قطاع النفط التي تمتثل في امكانية رفع نسبة البطالة نتيجة لرفع نسبة الصرف بين عمال هذا القطاع.
عبد العزيز بوتفليقة يستطيع المراهنة لكسب معركة الرئاسة على أوراق عدة منها تلقي القوى الاسلامية المتطرفة ضربة قاصمة على الرغم من اعادة بناء بعض فلولها. ومن ضمن هذا النجاح اطلاق الشيخ عباس مدني ودعوة الأخير للعثور على حل وطني ينهي هذه الحرب المدمرة في الجزائر. كذلك يستطع بوتفليقة الحديث مطولاً عن نجاحه التاريخي في اعادة الجزائر الى المسرح الدولي بعد أن غابت عنه لسنوات، وعن نجاحه في تفتيت هيئة "العروش" لدى البربر بعد ان كانت الجزائر كلها مهددة بما يشبه الحرب الأهلية. لكن كل ذلك لا يعني ان الفوز مضمون له. فالمؤسسة العسكرية التي وجدت نفسها لأول مرة منقسمة على نفسها، تعمل على استثمار الانقسامات وخاصة داخل جبهة التحرير، لكي تبقى المؤسسة القوية بين الضعفاء، وأن يبقى الجميع بحاجة لها يطلب تأييدها ويسعى اليه عبر تقديم مزيد من التنازلات والتعهدات المطلوبة منها.
يبقى الجزائريون الذين وجدوا انفسهم فجأة بين "مطرقة" بوتفليقة و"سندان"، بن فليس، فان معظمهم وكل من هو خارج الولاءات التقليدية يرى أن الجزائر غنية برجالها وعقولها وأنه من المحزن والخطير في آن معاً أن تبقى مقيدة بهذا الخيار أو ذاك في وقت تتواجد فيه عقول تمتلك الخبرة السياسية والشرعية الشعبية. ولذلك كله فانه يجب عدم استعجال استخلاص النتائج طالما ان التطورات ما زالت في بداياتها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.