لم تشهد الجمهورية الخامسة في فرنسا مشكلة تتعلق بالتجديد لرئيس الجمهورية أكثر من دورتين. ربما كان الرئيس الموجود يرغب في ذلك لكن الأحوال السياسية أو الظروف الشخصية منعته. فالجنرال شارل ديغول ترك الجمهورية تحت وطأة آثار ربيع 1968، وجورج بومبيدو توفي في قمة رئاسته، وجيسكار ديستان خسر انتخابات الدورة الثانية مع فوز فرنسوا ميتران، والأخير لم تكن القضية مطروحة أمامه على ما يبدو كون السرطان منعه في فترة رئاسته الثانية من ممارسة السلطة كما أراد دائماً "ملكاً" غير متوج لفرنسا.
الآن يبدو التجديد للرئيس جاك شيراك ولاية ثالثة مطروح جدياً. المسألة التي كانت مطروحة في دوائر الدولة ومكاتب المسؤولين، تحولت منذ احتفاله بعيد ميلاده الأخير سؤالاً فرنسياً علنياً على مختلف المستويات، وشيراك الذي تجرأ وعدل دستور الجمهورية الخامسة، فقصر فترة الرئاسة من سبع سنوات الى خمس، بعد أن كان فرنسوا ميتران قد أظهر تعبه بعد 14 سنة من السلطة قائلاً "سبع سنوات قليلة و14 كثيرة"، يبدو الآن في قمة تألقه السياسي تساعده في ذلك صحته القوية على الرغم من كل الإشاعات "اللئيمة" أو "الخبيثة" حول إصابته بأمراض مجهولة.
ومسألة التجديد لولاية ثالثة لجاك شيراك ليست عائدة لقوته أو حضوره السياسي فحسب، بل لأن فرنسا لم تخرج بعد من "الآثار الارتدادية لزلزال" ربيع 2001، عندما سقط مرشح ائتلاف اليسار الديموقراطي ليونيل جوسبان وفاز جان ماري لوبن مرشح اليمين المتطرف، مما دفع الفرنسيين وفي تظاهرة غير مسبوقة للدفاع عن الجمهورية الى الوقوف صفاً واحداً خلف جاك شيراك وانتخابه بعد منحه نحو 82 في المئة من أصواتهم!.
ولعل أبرز الآثار المدمرة لهذا "الزلزال"، أن اليسار بجميع أطيافه لم ينجح حتى الآن في استعادة وحدته على مستوى كل حزب أولاً، وبطبيعة الحال على مستوى "عائلة" اليسار كله، فالحزب الاشتراكي الذي سلم القيادة بعد مؤتمره العام لفرنسوا هولند، صار ساحة مكشوفة لحروب "فيلة" الحزب سواء من أجل الإمساك بالحزب أو للفوز بترشيحه للانتخابات الرئاسية المقبلة. وإذا كان فرنسوا هولند يعتبر نفسه المرشح الطبيعي للرئاسة لأنه يقود الحزب، فإن لوران فابيوس رئيس الوزراء الأسبق يعمل علناً للحصول على ترشيح الحزب له، هذا دون الحديث عن موقف تكتل اليسار داخل الحزب المعارض لكل هؤلاء.
كما أن الحزب الشيوعي الذي تحرر من روبير هو أمينه العام الذي قاده الى كوارث انتخابية وشعبية يبدو معلقاً في الفراغ كون قيادته الحالية تواجه على غرار قيادة الحزب الاشتراكي معارك داخلية طاحنة. فضلاً عن وقوعه بين مطرقة اليسار المتطرف وسندان الانجرار نحو الاجتماعية الديموقراطية. أما الخضر فإنهم بلا شك يعيشون أسوأ أيامهم الى درجة أن الحديث عنهم يتم بالضمير الغائب حتى إشعار آخر. وحده اليسار المتطرف ينمو على أطراف هذا اليسار الديموقراطي معرضاً فرنسا للوقوع في الوسط بينه وبين اليمين المتطرف.
أما "اليمين الجمهوري" الذي اجتاز بنجاح في مرحلة أولى التحالف والتضامن في إطار حزب واحد هو "الحزب من أجل الأغلبية الرئاسية" فإنه يعاني تبعات مواجهة حقيقية مع "الاتحاد من أجل الديموقراطية" على خلفية الطموح الدائم لرئيسه فرنسوا بايرو للفوز بالرئاسة، على أساس أن فرنسا تتجه يوماً بعد يوم نحو الليبرالية. لكن المشكلة الحقيقية هي فقر هذا اليمين بالمرشحين القادرين على الفوز بالرئاسة ذلك أن آلان جوبيه الأقرب الى قلب الرئيس شيراك يواجه متاعب قضائية متعلقة بتمويل "التجمع من أجل الجمهورية"، وجان بيار رافاران رئيس الوزراء الذي يشهد نمواً في شعبيته، لا يبدو مقنعاً كمرشح للرئاسة على الرغم من نشاطه ونجاحاته في بعض المجالات وبخاصة جرأته على الاصلاح في مواقع لم يكن أحد يتجرأ على خوضها مثل نظام تعويضات المتقاعدين.
يبقى نيكولا ساركوزي وزير الداخلية الذي تزداد شعبيته يوماً بعد يوم بسبب نجاحه الكبير في وزارة الداخلية الى درجة أن الصحف الفرنسية صارت تطلق عليه "الشرطي الأول في أوروبا"، وهو حالياً الوحيد الذي يتجاوز رصيده الشعبي شعبية شيراك، والوحيد الذي يمكن أن يشكل خصماً خطراً لشيراك، وأن يخترق كل الخطوط الدفاعية لشيراك، لأنه اعتاد على "الخيانة" كما تردد أوساط شيراك نفسها، ونتيجة لتجارب قديمة تعود الى تحالف ساركوزي مع ادوار بلادور ضد شيراك نفسه في الانتخابات الرئاسية.
مهما يكن فإن "حرب الخلافة" الفرنسية ما زالت في بدايتها، ولا بد أن تحصل مفاجآت خاصة، في حين أن المعني الأول بهذه الحرب وهو جاك شيراك لم يقل كلمته بعد!
يبقى "النجم الساطع" الجديد دومينيك دوفيلبان وزير الخارجية الحالي، والأمين العام لرئاسة الجمهورية السابق. الذي يبدو حالياً الأوفر حظاً في الحلقة الصغيرة المقربة من شيراك بأن يصبح المرشح الطبيعي لليمين، بعد أن أثبت حنكة ديبلوماسية في إدارة أصعب المعارك التي واجهتها الديبلوماسية الفرنسية منذ ربع قرن إضافة الى خبرته الطويلة بخفايا كواليس السياسة الداخلية والعلاقة المتشابكة بين مختلف القوى.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.